اعتدت من حين لآخر أن أتوقف لأفكر في أيام العمر التي مضت، وكيف امتد بي العمر لأعيش حتى اليوم.. ولابد أن أعترف أن التفكير في الماضي بقدر ما يمكن أن يملأ الواحد منا بالشجاعة والإصرار على مواصلة المشوار، إلا أنه قد يحمل في طياته مخاطرة الوقوع في فخ الشعور باليأس والإحباط.. فنشبه من يسير في طريق تأخذه فيه قدماه إلى الأمام بينما يستدير برأسه ناظرًا إلى الخلف، فيعرّض نفسه للوقوع في أي حفرة يصادفها!
الماضي، بكل ما فيه من أحداث صنعتني لأكون ما عليه الآن، يشكل نبعًا لا ينضُب من ذكريات أستمد منها شجاعتي لأعيش اليوم، وأواجه تحديات الغد. لكني، مثل باقي البشر، الماضي في حياتي لم يكن كله سهلاً ومريحًا؛ فقد عانيت من لسعات النحل في كل مرة جنيت فيها عسلاً.. فصارعت في عنادي مع أخطاء ارتكبتها، وجُرحت في معارك دخلتها بإرادتي أو مرغمًا. لقد فقدت بدون موت أحباء، وبالغربة أصدقاء.. أشياء تمنيتها لم أحصل عليها، وكلمات قلتها يا ليتها ما خرجت من فمي.. دفعت ثمنًا باهظًا لاختيارات لم تكن تستحق! لكني في النهاية تعلمت أن الله لا يريد أن يلازمني هذا الجزء من خبرة حياتي لبقية أيام عمري.. وأنه لو أعطاني كل ما تمنيته، وصليت وصمت لأحصل عليه، لكنت أتعس الناس اليوم!
نحن كبشر نميل أن ننقش مآسي الماضي على الحجر، بينما نسجل بركات حياتنا على الرمل! لكن الله يريد من كل مُقيَّد بأحداث الماضي البعيد أو القريب أن يكف عن فعل ذلك، ينفض عن قدميه غبار الفشل ومتاعب الأيام، ويخطو للأمام بروح الشكر والثقة في مواعيد الله.. «أوفي ذبائح شكر لك، لأنك نجيت نفسي من الموت. نعم، ورجليَّ من الزلق، لكي أسير قدام الله في نور الأحياء.» (مزمور ٥٦: ١٢ و١٣). في العلاقة مع الله هناك دائمًا أيام أعظم وأروع آتية في العمر طال أو قصر.
ما حدث في الماضي مضى، ولا يستطيع أحد أن يتحكم فيه أكثر مما أتيح له قبل أن يصبح ماضيًا، والآن لا نستطيع أيضًا أن نغير منه شيئًا.. لكننا بالطبع نستطيع أن نعيش اليوم بطوله وعرضه قبل أن يصبح “ماضيًا”، وأن ننتظر الغد بأمل ورجاء يتجددان مع فجر كل يوم جديد.
يقدم لنا الرسول بولس من اختبار حياته أحد أسرار النجاح فيقول: «لكني أفعل (أو ما يهمني) شيئًا واحدًا: إذ أنسى ما هو وراء، وأمتد إلى ما هو قدام …» (فيلبي ٣: ١٣). ولعل فعالية هذا السر تنبع من قدرة الواحد منا على أن «يمتد إلى ما هو قدام».. أو أن “يجتهد إلى الأمام”.. تُرى كيف؟
أعتقد أن التحدي الذي يواجهنا عندما ننظر إلى الأيام والسنين التي مضت هو عدم قدرتنا على انتقاء ما يمكن أن نحتفظ به في خزانة ذكرياتنا، وما يجب أن نتركه يهوي إلى قاع النسيان، فأغلبنا لديه القدرة على تذكر أدق تفاصيل أحداث ومواقف لابد أن ينساها، وينسى ما يجب أن يتذكره! فكيف يمكننا أن نتمسك بما يساعدنا أن ننطلق للأمام، ونتخلى عن كل ما يُعمق جروحنا، ويجدد آلامنا؟ كيف لنا أن نتحرر من كل ما يُكبلنا ويجعلنا عاجزين عن الاستمتاع بحلاوة عطية اليوم؟ وكيف نتدرب على التطلع ببهجة وشغف لأن نُعطى حياة من جديد في الغد؟
من أروع الشخصيات الكتابية التي تعاملت مع آلام وإحباطات الماضي كان يوسف الصديق.. فما عاناه يوسف بسبب غيرة وخيانة إخوته، والظلم الذي قاده إلى السجن، كان كفيلاً بأن يغرقه في مرارة ورثاء الذات. لكن قدرته على التعامل مع الماضي، الذي يصعب على أي بشر أن يجد له تفسيرًا، تدهشني! لقد استطاع يوسف أن يعبّر في إيجاز وعمق عن اختباره بعد أن عايش حاضرًا جديدًا في مصر.
فعندما وُلد له ابنان أعطاهما اسمين لكل منهما معنى: فقد دعا الابن الأكبر «منسى» قائلاً: «لأن الله أنساني كل تعبي وكل بيت أبي». ولما وُلد له ابن آخر أسماه «أفرايم»، قائلاً: «الله جعلني مثمرًا في أرض مذلتي» (تكوين ٤١: ٥١ و٥٢). وجدير بالذكر أن زوجة يوسف المصرية «أسنات بنت فوطي فارع كاهن أون» كانت بلسانًا له؛ فقد أحاطته بحب فاض على ما قاساه من مرارة وخيانة٬ فنسياهما، ووقفت بجواره، ودعمته٬ ووفرت له كل ما أعطاه الفرصة أن يكون مثمرًا، مع أنه كان غريبًا في مصر، وعندما تصالح مع ماضيه استطاع أن يواجه الغد بحكمة وثقة٬ واستخدمه الله ليحيي شعبًا كثيرًا، وهكذا تحول شر الأمس إلى خير اليوم ومغفرة الغد.
إذا كان ماضيك جاثمًا على صدرك، ومُقيدًا لحريتك٬ فاستمع إلى نصيحة كاتب الرسالة إلى العبرانيين في بداية الإصحاح الثاني عشر: “اطرح عنك كل ثقل الماضي، وخفف حملك، بالاعتراف بكل خطية عالقة بك في الحاضر؛ وابدأ بالجري بعزم إلى الأمام في ميدان الجهاد الممتد أمامك، مثبتًا عينيك على رئيس إيماننا ومكمله يسوع.. فيسوع المسيح قد سار من قبلك وقبلي في طريق الجهاد هذا، وأكمله. وها هو الآن ينتظرك وينتظرني عند خط النهاية.” فلنتمسك به إذن، ليس من أجل نسيان الماضي فقط، بل لتكون لنا رؤية أوضح لمستقبل مثمر.. فهو وحده الذي يستطيع أن يحررنا من قيود الماضي؛ فننطلق بشجاعة الإيمان إلى الأمام في المستقبل، وكل الأيام الآتية حتى نهاية العمر.
Discussion about this post