بعد صراع مع المرض لسنوات رحل دكتور بطرس غالى الشخصية الأشهر فى عالمنا العربى والأكثر جذبا لاهتمام الأنظمة والحكومات فى العالم على اختلافها… رحل سليل العائلة العريقة التى مارست السياسة منذ عهد الاحتلال البريطانى ولازالت آراؤه واطروحاته فى السياسة والأقتصاد والأمن وغيرها تشد الإنتباه على المستويين الدولى بحكم تقلده منصب أمين عام منظمة الأمم المتحدة والمحلى لكونه السياسى الأبرز على الساحة السياسية المصرية لسنين… ماذا قال عن المنظمة الدولية وعن دور أمريكا والعالم فى القرن الجديد وكامب ديفيد، وعن الديمقراطية وحقوق الانسان وبماذا وصف الاخوان المسلمين وثورة 30 يونيو.. وهل تنبأ بحروب المستقبل فى الشرق الأوسط وغيرها من حنكة القراءة للمستقبل.
قاد غالى منظمة الأمم المتحدة لولاية واحدة دامت خمس سنوات بدأت فى 1 يناير 1992 وانتهت فى31 ديسمبر 1996. وخلال رئاسته دبت الحياة فى مجلس الأمن الدولى بعدما شلت حركته الحرب الباردة وبدا أكثر نشاطاً وإقبالا على التدخل مما كان فى أى فترة سابقة. وقد صادفت بعض التدخلات نجاحاً فى هايتى وكمبوديا أما حالات التدخل فى الصومال ورواندا والبوسنة فلم تنجم عنها تسويات سياسية وإن تمكنت الأمم المتحدة من خلالها من إطعام مئات الآلاف من المدنيين وحمايتهم وحجب شبح الموت عنهم.
حين تكبدت القوات الامريكية خسائر فى الصومال حملت الأمم المتحدة وأمينها العام على وجه الخصوص مسئولية الاخفاق. ومنذ ذلك الوقت امتنعت واشنطن عن إبداء رأيها وتلكأت فى دفع الرسوم المستحقة لميزانية المنظمة وأخيراً بررت عدم موافقتهاعلى تجديد ولاية غالى بحجة عدم رغبته فى إصلاح الهيكل الإدارى للمنظمة على عكس الواقع تماما ومن ثم وصف بالرجل الذى أغضب أمريكا.
عمل غالى على توسيع دور الأمم المتحدة فى حفظ السلام مما جعله الشخصية المثيرة للجدل فى نظر بعض الاوساط الدولية وعلى رأسها أمريكا وتسببت خططه فى صدام بينه وبين أمريكا وبعض الحكومات العربية الأخرى وخلافات مع القادة الميدانيين للأمم المتحدة ورغم غضب أمريكا استمر غالى فى مسيرة البحث عن السلام طوال ووجوده بالمنصب. أيضا لم تنس أمريكا إصراره على نشر تقرير قانا الذى فضح ممارسات إسرائيل العدوانية.
وصف المخضرم معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1979 بالمسار الصحيح وموقف الرئيس السادات من الانفتاح على العالم الغربى بالصائب والوسيلة الناجعة لأحداث نهضة فى مصر تفتح الأبواب أمام المجتمع الدولى، رافضا كل الآراء التى رأت أن المعاهدة كبلت مصر وجعلتها عاجزة عن أن تقف أى موقف ضد إسرائيل، معتبراً أن وقوف أمريكا وراء القوة العسكرية الإسرائيلية كفيل بأن يضعف قدرة مصر أو أى دولة عربية على محاربة إسرائيل.
لم يعتبر غالى مناقشة قضية حقوق الإنسان فى الأمم المتحدة تدخلا فى الشئون الداخلية للدول فقد أضحت القضية شأناً إنسانيا دولياً مثل قضايا البيئة كما أن الامم المتحدة تعمل على هذا الملف منذ انتهاء الحرب الباردة وتقوم رؤيتها على أن حقوق الانسان جزء لا يتجزأ من الديموقراطية وأن الدفاع عن الديموقرطية دفاع عن السلام.
أثناء تبوأه منصب الامين العام طرح رؤيته لاصلاح الأمم المتحدة ضمنها فى كتاب بعنوان” أجندة الديمقراطية” طالب فيها بزيادة دور المجتمع المدنى وعرفها بالمنظمات غير الحكومية والتيارات الفكرية المختلفة والجامعات والمعاهد والاحزاب السياسية وبأنه يتوجب وجود لاعبين مختلفين بخلاف الدول الأعضاء بالمنظمة.
لم يغفل غالى الاشارة إلى تراجع دور الامم المتحدة فى بداية التسعينيات وأرجع ذلك لزوال الاتحاد السوفيتى وهيمنة أمريكا دون منافس فضلا عن وجود عديد من الجهات الفاعلة من غير الدول داخل المنظمة بعكس السابق حيث كان لكل دولة ممثل واحد فى السياسة الخارجية.
تنبأ غالى منذ عقد بأن العالم سيشهد انقساماً بين عالم ثرى وآخر يزداد فقراً وتخلفاً، وان هذه هى المشكلات الاساسية التى سوف تسيطر على القرن الحالى. يضاف الى ذلك أن العولمة لها جوانب سلبية واخرى إيجابية حيث تساعد على المزيد من الانقسام على المستوى الدولى ومزيد من الثراء لمجموعة من الدول مقابل مزيد من التخلف لمجموعة أخرى.
توقع بأن الحرب القادمة فى الشرق الأوسط هى حروب المياه وليس السياسة وأن الصراع حول المياه فى المناطق الساخنة الرئيسية فى المنطقة لا يمكن حلها إلا من خلال انشاء منظمة مراقبة دولية متخصصة.
وفى أزمة سد النهضة تحديداً رأى غالى أن التفاوض السياسى حل أساسى لتلك المعضلة الكبيرة التى تهدد مصر.
قال فى محاضرة ألقاها بالمعهد الدبلوماسى بالقاهرة أمام عدد من الدبلوماسيين من دول الكومنولث أن مصر ترتبط بعلاقات قديمة مع إثيوبيا ومن المهم تكثيف التعاون المشترك بين الدولتين فى مختلف المجالات التجارية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفتح آفاق جديدة للتعاون، وضرورة أن تمارس المنظمات المدنية دورها لحل الأزمة بعدما أصبحت لاعباً جديداً فى الساحة الدولية بجانب الدول فى عصر العولمة التى تتفاعل فيه المجتمعات الانسانية بفعل الثورة التكنولوجية الهائلة والمتسارعة فى عالم الاتصالات.
ولد بطرس بطرس غالى فى 14 نوفمبر 1922 وهو متزوج من يهودية مصرية تدعى ليا نادلر تخرج من كلية الحقوق جامعة القاهرة سنة 1946 وحصل على درجة الدكتوراة فى القانون الدولى من جامعة باريس سنة 1949 فيما عمل أستاذاً للقانون الدولى بجامعة القاهرة خلال الفترة بين 1947- 1977 وكان عضواً باللجنة السياسية والمكتب المركزى للاتحاد الاشتراكى العربى بمصر.
شغل منصب أمين عام منظمة الأمم المتحدة (السادس) خلال الفترة ما بين 1992و 1996 قبل كوفى عنان وهو حفيد بطرس غالى رئيس وزراء مصر فى أوائل القرن العشرين. كما شغل منصب رئيس المنظمة الفرانكوفونية والمصرية لحقوق الإنسان.
من بين أنشطته المهنية والاكاديمية كان غالى عالماً باحثاً بجامعة كولومبيا خلال الفترة من 54-1955 ومديراً لمركز الابحاث فى أكاديمية لاهاى للقانون الدولى خلال المدة من 1963 إلى 1964 وأستاذاً زائراً بجامعة باريس خلال عامى67- 1968
ألقى محاضرات فى القانون الدولى والعلاقات الدولية فى جامعات بأفريقيا- وأسيا وأوربا وأمريكا الشمالية واللاتينية.
قدم غالى روشتة علاج لازمات مصر بعد ثورة 25 يناير2011 وأن مصر تحتاج خمس سنوات للنهوض من كبوتها بعد حكم الاخوان المسلمين عقب ثورة 30 يونيو.
وصف الرئيس السيسى فى حواره مع صحيفة جون أفريك الفرنسية نشرته فى أكتوبر 2015 بالرجل الذى يستمع وبأنه يطرح أسئلة ذكية، وتردد كثيراً فى تولى السلطة لكنه قرر أن يفعل ذلك لأنه يوجد حل آخر.
قال: قابلته قبل وبعد ثورة فى الانتخابات الرئاسية وأنا أدعمه تماما. أما التطرق لاستشارات فلم يحدث. لقد أتممت عامى الـ 93 والاستشارات بحاجة الى مجهودات ودراسات وأنا لم أعد قادراً عليها صحياً، حتى حضور المؤتمرات والمشاركة فيها أصبح مجهداً.
وعن خطاب الرئيس فى الجمعية العامة للأمم المتحدة قال إن هذه السياسة تنص مع ما نص عليه ميثاق الأمم المتحدة الذى يدعو لعدم التدخل فى شئون الدول وإقامة السلام العادل والشامل.
رحب غالى بسعى الدولة لانشاء عاصمة إدارية جديدة لكنه انتقد قربها من القاهرة العاصمة الحالية. قال: أنا لست ضد إنشاء عاصمة جديدة فهناك تجارب لدول أخرى سبقتنا لذلك، لكن الفرق أننا حينما فكرنا فى موقع العاصمة الجديدة اخترنا مكانا لا يبعد اكثر من 60 كم من قلب العاصمة القديمة، فى حين اختارت البرازيل عاصمة تبعد عن ريودى جانيرو العاصمة بألف كيلو متر- ومسافة 60 كم لا تعد نقلة لكن مجرد إمتداد للقاهرة.
فى ديسمبر2014 قال بطرس غالى إن ترديد الإخوان لمصطلحات الرئيس المنتخب مرسى والبرلمان الشرعى يعد كلاما فارغاً وأن الرأى العام المصرى بكل فئاته هو من رفض حكم الجماعة.. هم لم يفهموا الوضع الدولى والثورة التكنولوجية والعولمة والانفتاح.
وصفته الصحف الغربية بالفقيه صاحب التاريخ الطويل بالشئون الدولية والدبلوماسية وعميد الدبلوماسيين المصريين.
قالت عنه صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية: كان له دور كبير فى إبرام اتفاق السلام إلا أنه كثيراً ما هاجم إسرائيل رغم كونه أحد المرافقين للسادات فى زيارته التاريخية للقدس.
وكان له دور فى رسم كثير من السياسة الخارجية لمصر فى فترة السبعينات عندما شغل منصب وزير الدولة للشئون الخارجية أثناء حكم السادات.
(رحل بطرس غالى تاركاً إسماً محفوراً بالذهب فى صفحات التاريخ بمسيرة حافلة فى عالم السياسة والدبلوماسية وعلى مدى أربعة عقود شارك فى العديد من المؤتمرات الخاصة بالقانون الدولى وحقوق الإنسان والتنمية الاقتصادية والاجتماعية وإنهاء الاستعمار وقضايا الشرق الاوسط وحقوق الأقليات الاثينه وعدم الانحياز والتنمية فى منطقة البحر المتوسط والتعاون الافريقى العربى.
سوف يظل عطاء د. غالى الممتد فى الفكر السياسى والقانونى وما حققه من انجازات فى المناصب التى تقلدها رمزا وطنيا ومثلا لكل المصريين على المستوى الدولى.. هكذا نعته مصر فور نبأ وفاته الثلاثاء 16 فبراير 2016.