لكل إنسان فلسفته في الحياة.فالفلسفة رؤية خاصة جدا.تختلف باختلاف الخبرات والمرجعيات.هذا ما آمنت به ”وطني” علي مدار نصف قرن اهتمت فيه بقضية الفلسفة فتركت الفرصة للرأي والرأي الآخر,وعرضت لكافة المدارس الفلسفية علي تباينها.فمنذ صدور العدد الأول ”لوطني” في 1958/12/21 كان هناك اهتمام خاص بالمواد التي تنتمي بطبيعتها للفلسفة إذ تصدر صفحة الأدب في هذا العدد موضوع تحت عنوان ”مظاهر الفلسفة في سيرة الحكماء” للدكتور محمود الخضيري,الذي أوضح فيه أن الحكماء يعتبرون الفلسفة سيرة في الحياة تجمع بين العلم والفضيلة,وعلي الفيلسوف أن يكون لديه الأساس للإدراك العقلي المباشر الذي يبني عليه أفكاره,مبينا أن علي هذا النحو كانت مدارس الحكمة عند الفلاسفة الأولين.
وتحت عنوان ”المبادئ الوجودية وحقيقتها” بدأت وطني سلسلة عن فلسفة الوجودية كتبها د.محمد غلاب أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين بالأزهر تناول فيها كيف أصبحت الوجودية بدعة فكرية في مصر ساعد علي ازدهارها بعض الروايات المسرحية والسينمائية,وأفرزها في الأصل عقل سارتر وتلاميذه (علي حد تعبير د.غلاب).
ثم توصل د.غلاب إلي أن هناك نوعين متباينين من الوجودية أولهما ينحرف للإلحاد والفوضي والانحلال مثل سارتر,وثانيهما جاء نتيجة للإيمان والنظام والتماسك الخلقي مثل الوجودية والأفلاطونية والمسيحية والإسلامية التي تقوم علي أن الوجود قام بإرادة الخالق قبل إيجاد الكائنات الحية,وهاجم د.غلاب سارتر واصفا منهجه بأنه هدام يقتضي محو العنصر الديني والأخلاق,والنهاية الطبيعية لهذا المنهج هي القلق المضني.
فيلسوف المسيحية
وعن أوغسطين أول فيلسوف في المسيحية وفلسفته في الإيمان كانت سلسلة أخري عرضت لحياته وكيف كان متأثرا بأفلاطون فذهب في أفكاره إلي أن كل ما نراه في العالم المحسوس إنما هو شبح وخيال لعالم آخر هو عالم الحقيقة الكاملة الذي توجد فيه المثل والمبادئ.لقد كان عصر أوغسطين مليئا بالمتشككين الذي كان منهم ثم انحسر شكه ليصبح يقينا فوصل إلي خلاصة فلسفته وهي ”حب وأنت تؤمن.فأنت لا تؤمن إلا بمقدار ما في قلبك من نقاء وصفاء ليس بمقدار ما في عقلك من حجة وبرهان” إنها فلسفة تدين بأن القيمة الكبري للروح والحب والإيمان.
فلسفة من نوع آخر
لم تقتصر المواد الفلسفية علي النظري منها بل اهتمت ”وطني” باختيار نماذج ممن كانت لهم فلسفة خاصة في حياتهم وأعمالهم لتعرض تجربتهم.ففي الستينيات نشرت موضوعا عن ”رباعيات الفلسفة والكشف عن حيرة الوجود”,قراءة في رباعيات صلاح جاهين للدكتور إيهاب الخراط وصف فيها كيف تبلورت خبرة ورؤية جاهين في الأمور الحياتية المختلفة فعندما تحدث عن الحياة والموت وعدم تخيير الإنسان فيها كانت له فلسفته فقال:
وأنا في الظلام من غير شعاع يهتكه
أقف مكاني بخوف ولا أتركه
ولما يجي وأشوف الدروب
أحتار زيادة أيهم أسلكه
وعجبي
ومن أمثلة الرباعيات التي تناولتها تلك القراءة أيضا ما يدور منها عن الخوف والحيرة ومواجهة المشكلات بشجاعة إذ قال جاهين:
عيني رأت مخلوقا في غاية البشاعة
أنا قلت لما تأملته ساعة
اللذة والموت علموك اللذج
وأنا علموني الفلسفة والشجاعة
وعجبي
وعن تقلبات الإنسان في ميوله قال:
لا تجبر الإنسان ولا تخيره
يكفيه ما فيه من عقل بيحيره
إللي النهاردة بيشتهيه
هو إللي بكره حايشتهي غيره
عجبي
علي نفس المنهج عرض الدكتور عاطف العراقي للفلسفة في كتابات الراحل نجيب محفوظ لدي رحيله منذ عام,وكان ذلك تحت عنوان ”العملاق من منظور فلسفي” وشرح العراقي كيف أدرك محفوظ أن للأدب وظيفة فلسفية واجتماعية تعبر عن الواقع وتضع لمشاكله حلولا.
حملة لمناصرة الفلسفة
في بداية الستينيات تعالت الأصوات التي تنادي بإلغاء تدريس مادة الفلسفة في المدارس الثانوية قامت ”وطني” علي أثر ذلك بحملة أوضحت فيها أهمية إدراج هذه المادة في المناهج الدراسية,ودعت لعدم التهوين من شأن الفلسفة حتي أن رئيس تحرير ”وطني” آنذاك الراحل عزيز ميرزا كتب مقاله الافتتاحي في 24أبريل 1960 عن هذا الموضوع.
تناولت الحملة آراء طائفة من خريجي الفلسفة الذين تفوقوا في ميادين الأدب والصحافة والإذاعة,فالتقت بنجيب محفوظ الذي قال:إن الفلسفة تورث النظرة التأملية الشاملة,وتمنح صاحبها الفرصة لأن يكون سديدا في حكمه علي الأمور,وتعطيه الفرصة للتسامح والاعتدال.
أما أنيس منصور فثار مهاجما اقتراح إلغاء المادة وأشار إلي أن الفلسفة هي قواعد المشي والأكل والنوم والصحة والمرض,هي السطور التي تملأ الصفحات ولا تجدها في الورق لكنك تراعيها في كل شئ.
كذلك كتب د.يوسف مراد في هذه الحملة عن الفلسفة كضرورة حيوية يحتاجها المراهق في سن التعليم الثانوي لأنه يكون في هذا العمر في حاجة للتفلسف ويود أن يصل إلي نفسه وللكون ولعلل الأشياء والفلسفة هي التي تمد الإنسان بذلك,إذا فهي ضرورة للنمو العقلي والنفسي لدي المراهق وإرضاء حاجة ملحة لديه ألا وهي الفهم والتفسير.
كانت نتيجة تلك الحملة أن عدلت وزارة التربية والتعليم عن اقتراحها ولم يتم تنفيذه واحتفظت الفلسفة بمكانتها حتي يومنا هذا.
راسل يحاور نفسه
أما في السبعينيات من القرن الماضي فتضاءل عدد المواد المنشورة عن الفلسفة والتي كان أبرزها موضوع تحت عنوان ”محاورات برتراند راسل” في عام 1979,تناول الموضوع كيف كان راسل يحاور نفسه والكتاب الذي أصدره تحت نفس العنوان وعرض الموضوع فحوي الكتاب الذي تضمن حوارا لراسل مع التليفزيون البريطاني في عام 1959,وقد أحدث دويا هائلا آنذاك في الأوساط الثقافية والإعلامية.
كانت أهم الأسئلة التي أجاب عليها راسل:ما الفلسفة؟ إذ قال: ”لا أظن أنك تجد اثنين من الفلاسفة يعطيانك إجابة واحدة,ولكن الفلسفة من وجهة نظري مجموعة من التأملات حول موضوعات لا نعرفها بالضبط مشيرا إلي أن الفلسفة هي ما لا نعلم أما العلم هو ما نعلمه.
وعن مستقبل الفلسفة كان راسل متشائما فأكد أنها لن تنال من الأهمية ما حظيت به أيام اليونان في العصور الوسطي,لأن نهضة العالم أضعفت الفلسفة.
أما عن السعادة قال برتراند راسل: ”إن عددا كبيرا من الناس لديهم ما يكفيهم لكي يصيروا سعداء لكنهم يقلقون أنفسهم لأن أناسا آخرين فيما يبدو لديهم ما هو أكثر فيبددون متعة السعادة بالتفكير”.
كانت تلك ملامح محاورات راسل التي اعتبرها المفكرون وصية فكرية للمثقفين تجمع بين آراء راسل في الحياة العامة,ونهج فيها نهج سقراط وأفلاطون.
في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي اهتمت ”وطني” بعرض الفلسفات المختلفة مثل فلسفة جان بول سارتر والتي سميت بفلسفة الأزمة,وإسهاماتها في تطور الفكر الأوربي,كما عرضت بعض عناصر المجلد الضخم الذي نشر عن الفيلسوف ابن رشد تحت إشراف الدكتور عاطف العراقي,وما ضمه هذا المجلد من نصوص مختارة لابن رشد وبحوث لأساتذة الفلسفة,بالإضافة إلي الدراسة القيمة التي قدمها الأب جورج قنواتي عنه في عصر النهضة.
الربط بين الفلسفة والفن والجمال كان أهم ما قدمته تلك الفترة,اتضح ذلك في موضوع ”الفلسفة والجمال والبحث عن الحقيقة” الذي قدم للقارئ حقيقة الربط بين الشعر والفلسفة وما قاله أرسطو في ذلك من أن الشعر يتضمن فلسفة أكثر مما تضمنه التاريخ.
الفلسفة والكمبيوتر
استمر العطاء الصحفي في مجال الفلسفة وعرف كل ما هو جديد,مع استقطاب كتاب جدد كان علي رأسهم الدكتور عصام عبد الله الذي كتب عن الفلسفة والكمبيوتر وأن طفرة الكمبيوتر لم تكن بمعزل عن الفلسفة وإنما بسببها إذ استفز الفيلسوف ”هربرت دريفوس” علماء الكمبيوتر عام 1972 في كتابه ”ما الذي لا يستطيع الكمبيوتر فعله؟”. حيث شبه محاولات تطوير هذا الجهاز للوصول به إلي درجة الذكاء الصناعي بإنسان يتسلق الشجرة بهدف الوصول إلي القمر,وأعاد نشر الكتاب عام 1993.مما حفز مجموعة من العلماء علي مزيد من البحث,وفي المقابل نشطت مجموعة من الفلاسفة في مجال اكتشاف قدرات العقل الإنساني إذ تفجرت علي أثر ذلك قضية فلسفية هي مفهوم العقل والقدرة الهائلة علي تحريك الإنسان وإسعاده وإتعاسه.
اليوثوبيات
وكان أبرز ما نشر بعد عام 2002 هو الموضوع الذي تناول ذكري الراحل ”ذكي نجيب محمود” فتناول كاتبه د.عصام عبد الله إسهامات د.ذكي بالتحليل,مؤكدا أنها انطلقت من التطلع لعالم أفضل وهذا هو معني ”اليوثوبيا” التي تحاول الوصول للطلب المفقود نحو الأفضل.
أشار د.عصام في عرضه إلي اليوثوبيات المختلفة عبر التاريخ وأبرزها ”الجمهورية” لأفلاطون,”المدينة الفاضلة” للفارابي,”أبناء الأرض التي لا وجود لها ”لوليم موريس”,”أحلام الفلاسفة” لسلامة موسي و”أرض الأحلام” لذكي نجيب محمود.ثم عرض لمفهوم ”أرض الأحلام”.
وختم بمقولة د.ذكي في نهاية كتابه ”أرض الأحلام”:
”لو أحس القارئ بعد فراغه من قراءة هذا الكتاب شيئا من الضيق بما نحن فيه من عيش سقيم وبائس ثم أحس برغبة في التغيير والإصلاح علي نحو اشتراكي يعرف للأفراد أقدارهم,ويترك لهم حق حرياتهم,ويحطم الفواصل البغيضة بين الناس.لو أحس القارئ بشئ من هذا تحقق لي الهدف الذي قصدت إليه”.