في الأسابيع القليلة الماضية, ظهرت الشخصيتان المزدوجتان للحكومة الأمريكية: إحداهما مثيرة للإعجاب, والأخري مقلقة جدا. لنبدأ بالأخبار السارة: فالأدلة تزداد الآن علي أن ردة فعل واشنطن تجاه الانهيار المالي العالمي كانت فعالة. أتتذكرون خريف عام 2008؟ لقد شلت الأسواق المالية ونضبت مصادر القروض وعاني الاقتصاد انهيارا حادا. بحسب كل المعايير تقريبا, شهد الاقتصاد أحلك أيامه منذ ثلاثينات القرن الماضي, وكان ذلك يحصل في أسوأ وقت ممكن. فالرئيس الأمريكي المنتهية ولايته كان يواجه حزبا معارضا يتحكم بكلا مجلسي الكونجرس. وكانت هذه وصفة مضمونة للشلل والتناحر وعدم التحرك.
لكن في الواقع, كان تعاون الإدارة والكونجرس سريعا وجيدا, وفي غضون أسبوعين, خصص الكونجرس مبلغا مذهلا قدره 700 مليار دولار لإنقاذ النظام المالي. ومع قرب انتهاء ولاية إدارة بوش, عملت هذه الأخيرة بشكل وثيق مع فريق أوباما الذي كان يوشك علي تولي الحكم والذي أكمل الهيكلية الأساسية لخطة الإنقاذ, معدلا بعض نواحيها ومضيفا نواحي أخري. عملت المجموعتان بعناية مع بنك الاحتياطي الفيدرالي, وهو اللاعب الأساسي في هذه الأزمة الذي تصرف بحزم وإبداع. وأيد ديموقراطيون أمثال بارني فرانك إدارة بوش, وتخلي جورج دبليو بوش عن تطرفه الأيديولوجي وتدخل في الاقتصاد إلي حد كبير.
وفيما يتعلق بأي سياسة ناجحة, يسهل القول الآن إن السياسة المتبعة لم تكن ضرورية أو كانت مبالغا بها. لكن في ذلك الحين, بالطبع, كان الانتقاد السائد أن جهود الإنقاذ ضعيفة جدا يجب تأميم البنوك! وأن خطة التحفيز المالي لم تكن شاملة بما يكفي. وكما في كل الحالات الطارئة, بإمكان المرء أن يقول بالنظر إلي الوراء إنه كان يمكن اتباع استراتيجيات أكثر تعقيدا, وإن الإجراءات التي اعتمدت قد تؤدي إلي مشاكل أخري مع مرور الوقت, مثل التضخم. لكن في مواجهة احتمال حدوث ركود اقتصادي, عمل الكونجرس والإدارة وبنك الاحتياطي الفيدرالي معا لإعادة إرساء الاستقرار في النظام. لقد استجابت هذه السلطات في وقت الأزمة. لماذا؟ لأنها كانت أزمة بكل بساطة.
ثمة صفة تتميز بها أمريكا نظامها وحكومتها وشعبها تتيح لها أن تكون ردة فعلها في مواجهة الأزمة سريعة بشكل مذهل. لننظر إلي ما حدث بعد الهجوم علي بيرل هاربر أو حتي بعد هجمات 11 سبتمبر. مهما كان رأي المرء باستراتيجية إدارة بوش اللاحقة, فقد تضافرت جهود كلا الحزبين في الأسابيع التي أعقبت 11 سبتمبر لإقرار سياسات مهمة وحشد التعاون الدولي لجعل مكافحة الإرهاب أولوية قصوي, وتحسين الأمن علي الطائرات وفي المطارات, وتقفي آثار الإرهابيين وأموالهم, ومطاردة أعضاء تنظيم القاعدة. هذه الخطوات ضيقت الخناق علي الإرهابيين ولاتزال تصعب عليهم التخطيط للهجمات الكبيرة وتنفيذها.
لكن لرؤية ضعف النظام الأمريكي, علينا أن ننظر إلي الأسبوع أو الأسبوعين الماضيين والجدال العقيم حول العناية الصحية. فمن الواضح جدا أن نظام الرعاية الصحية الأمريكي علي مسار غير مستدام. إن استمرت النزعات الحالية وما من دليل يشير إلي أنها لن تستمر ستستهلك الرعاية الصحية 40% من الاقتصاد الوطني بحلول عام .2050 المشكلة هي أن هذا انحدار بطيء ومطرد, ولا يؤدي إلي أزمة. فما من هجوم علي بيرل هاربر وما من هجمات في 11 سبتمبر. ونتيجة لذلك, نبدو غير قادرين علي معالجته بشكل جدي.
هذا لا يعني أن المشاكل غير واضحة للجميع, مهما كانت توجهاتهم السياسية. إن التكاليف ترتفع بسرعة لدرجة أن 10آلاف أمريكي يخسرون تأمينهم الصحي كل يوم. في عام 1993, كان 61% من المؤسسات التجارية الصغيرة توفر تأمينا صحيا لموظفيها. الآن انخفضت هذه النسبة إلي 38%. والمؤسسات الأكبر حجما تواجه تكاليف رعاية صحية متزايدة. رغم ذلك, فإن حالة الأمريكيين الصحية أسوأ من حالة نظرائهم في معظم البلدان الصناعية المتقدمة بحسب معظم المعايير تقريبا, وهي بلدان تنفق نصف ما ينفقه الأمريكيون علي الرعاية الصحية للفرد الواحد, ونسبة الأشخاص المسنين فيها أعلي.
الجدال السياسي الدائر الآن مذهل فيما يوحي المحافظون بأن أوباما يؤيد القتل الرحيم ومجالس الاستجواب القاسي, ويحول أمريكا إلي روسيا. (أظنهم لم يتنبهوا إلي أن روسيا لم تعد شيوعية). انعدام الجدال الجدي مؤسف لأن اقتراحات الديموقراطيين منقوصة, فهي لا تتضمن سوي بعض الإجراءات المبهمة للحد من التكاليف, والخطوة الأساسية إنشاء مجلس طبي تفترض (وهو أمر مستبعد) أن الكونجرس سيعطي صلاحيات واسعة لخمسة أشخاص غير منتخبين يقررون من يحق له الحصول أو عدم الحصول علي العلاجات والعقاقير. الاحتمال الأكثر ترجيحا هو أنه سيتم توفير تغطية أوسع انتشارا ومنافع جديدة, في حين سيتم تأجيل البحث في التخفيضات حتي وقت لاحق.
الرعاية الصحية هي المشكلة الأكثر خطورة في البلد علي المدي الطويل. لكن إن نظرنا إلي الضمان الاجتماعي, والالتزامات الحكومية المتعلقة بالأجور التقاعدية, والعجز المالي لحكومات الولايات, والاعتماد المفرط علي الطاقة, نري أننا نواجه المشكلة نفسها. فكل من هذه المشاكل يزداد سوءا يوما بعد يوم. مع ذلك, لا يبدو النظام السياسي قادرا علي مواجهتها وإجراء إصلاحات أساسية. في هذه المسائل المهمة جدا, أمريكا عالقة في دوامة متفاقمة لدرجة أن ذلك يجعلك تتمني حدوث أزمة.
واشنطن بوست