منحت جائزة نوبل للسلام, حصلت علي الأوسمة والألقاب, استحقت أن يطلق عليها سفيرة السماء للفقراء, وأقوي امرأة في العالم, إنها الأم تريزا التي كافحت لأن تكون نورا للآخرين حتي في أحلك الليالي, لقد تخطت الصعاب وعبرت الحواجز لخدمة أفقر الفقراء في جميع أنحاء العالم, رفعت شعارات من أبرزها: يجب ألا تنتهك كرامة الإنسان واعمل الأشياء الصغيرة بمحبة عظيمة, فأخذت تجول العالم كله لتقدم المساعدة أينما يفقد الناس حياتهم وممتلكاتهم دون النظر إلي ديانتهم يهودا, مسيحيين, مسلمين, وغيرهم.
ويأتي هذا الكتاب الذي بين أيدينا ما علمتني الأم تريزا الكثير من حياة وأعمال الأم تريزا التي كانت رمزا للحب والعطف.
كانت الكاتبة ماريان رافائيل شغوفة بعمل هذا الكتاب عن الأم التي حلمت أن تقابلها ولو لمرة واحدة في حياتها وقد تحقق لها الحلم, ويضم الكتاب جزءين, الأول بعنوان حياة الأم تريزا وأعمالها, والجزء الثاني بعنوان ما علمتني الأم تريزا.
الحياة الأولي
ولدت أجنس بوجاكسيو التي أصبحت فيما بعد الأم تريزا في أغسطس عام 1910 في مدينة سكوبي بمقدونية من أسرة تنتمي للروم الكاثوليك, اشتهر والداها بمحبة كل منهما للآخر محبة عظيمة, كانت الأسرة تواظب علي الصلاة وحضور القداس والمشاركة في الأنشطة الكنسية ومساعدة المحتاجين, وهنا تعرض الكاتبة لواقعة يتجلي فيها حب الأسرة خدمة المحتاجين, فقد استضافت الأسرة امرأة عجوزا تعاني مرضا خبيثا وأولتها بالرعاية حتي تحسنت حالتها, رغم الظروف المادية الصعبة التي كانت تمر بها الأسرة بعد وفاة الأب, وسط تلك الأسرة شبت أجنس علي محبة الآخرين.
الرحلة
كان شاغلها الأول هو العمل من أجل المسيح فكانت تسأل نفسها: ما الذي أفعله ليسوع؟ وهل أنا مستعدة لاتباعه إذا دعاني؟ كانت تشعر بأن هناك شيئا ناقصا في نفسها ولا يستطيع أن يملأه إلا الله وحده وكانت تشتهي أن تموت في سبيل الله, وقد تلقت الدعوة الأولي للرهبنة والخدمة عندما سمعت الأب جامبر ينكوفيش يتكلم عن الهند والأحياء الفقيرة بها, فشعرت بفرح داخلي فقررت الرهبنة, وفي مايو عام 1929 انضمت أجنس بصفة رسمية لراهبات لوريتو في باريس وقد اختارت اسم ماري تريزا وأرادت أن تسير نهج القديسة تريزا شفيعة المكرسات.
لكن الرهبنة ليست نهاية المطاف عند ماري تريزا فقد أرادت شيئا أعظم من هذا, وإذ بالدعوة الثانية تأتي من الله لها, حيث سمعت صوت يسوع داخلها قائلا لها: أنا عطشان إلي محبتك. قالت: أبي إني أحبك؟ قال لها: اروي عطشي بمساعدة أفقر الفقراء. اتبعنيي في الشوارع. كوني يدي واهتمي بمرضاي, كوني قدمي التي تزور الذين يقاسون الوحدة, وكذلك المسجونون. كوني صوتي وخففي عن المكروبين, وواسي الحزاني المتألمين, ساعدي من يحتضرون علي أن يأتوا إلي… وبعد موافقة بابا الفاتيكان خرجت الأم تريزا من الدير بعد أن عاشت فيه 17عاما, ولم يكن يسمع من قبل أن راهبة تعيش وتعمل خارج الدير, وعلي الفور خلعت ثوب الرهبنة وارتدت الساري الأبيض ولبست صندلا بسيطا في قدميها وانضمت للعمل مع راهبات من المكرسات للعمل الطبي في مستشفي العائلة المقدسة وكان ذلك عام 1948.
وتوضح الكاتبة كيف أن الله دبر للأم تريزا ومن معها بيتا للخدمة, يدعي صاحب البيت ميشل جومز الذي استضافهم في الطابق العلوي من البيت, وسرعان ما انضمت العديد من المكرسات والمتطوعات لمساعدة الأم تريزا في عمل الخير وكان هدف الجمعية خدمة الفقراء في كل مكان ومهما كانت ديانتهم, وفي عام 1950 أعلن بابا روما اعتبار مكرسات لعمل الخير منظمة كنسية رسمية.
مدينة السلام
اهتمت الأم تريزا أيضا بالمرضي المحتضرين, خاصة عندما رأت امرأة عجوزا تحتضر وسط القمامة لا يسأل عنها أحد فحملتها إلي المستشفي وتوجهت علي الفور إلي وزارة الصحة وقالت: أعطوني مكانا, يمكن للناس أن يموتوا فيه بكرامة. وقد حصلت علي مكان كان يستخدمه الهنود كاستراحة, وتم تجهيزه لاستقبال المرضي المحتضرين, كما تأثرت كثيرا عندما وجدت أطفالا في مستودعات القمامة وعند بالوعات الصرف الصحي, وعلي أبواب البيوت والكنائس حيث تركتهن أمهاتهن لعدم قدرتهن علي تحمل تكاليف إطعامهم, وعلي الفور قامت بإنشاء دار للأطفال غير المرغوب فيهم, وكانت تقول دائما: يجب ألا نرفض بأي حال أي طفل يكون في حاجة إلي مأوي ويجب ألا ننسي أن أي طفل هو الطفل يسوع.
ولم يفتها مرضي البرص فسرعان ما قامت ببناء بيت يدعي مدينة السلام لمرضي البرص في مدينة أسانسول غربي البنغال وقدمت الحكومة 34 فدانا قامت الراهبات والمرضي بزراعة الأشجار وكان المتطوعون يعلمون المرضي كيف يضعون قوالب الطوب ويبنون الأكواخ الخاصة بهم, وكانوا يزرعون القمح والأرز ويربون الأغنام والدواجن.
لم تكتف الأم تريزا بالخدمة في مكان بعينه, بل أخذت تجول أنحاء العالم لخدمة الفقراء, وفي عام 1969 أعدت لائحة خاصة بالرابطة العالمية للعاملين معا, وقد اختارت عبارة العاملون معا تكريما لغاندي الذي كان يسمي معاونيه زملاء العمل, فكانت أول منظمة علمانية تجمع كافة الأديان ويكون هدفها خدمة أفقر الفقراء. وفي نهاية عام 1979 كانت هناك 158 مؤسسة أقامتها الأم تريزا لخدمة الفقراء في أنحاء العالم, وسرعان ما نجدها في أيرلندا لمساعدة الأرامل اللواتي قتل أزواجهن, وفي إثيوبيا تنقذ 7 ملايين نسمة كانت مهددة بالموت جوعا, وفي كمبوديا تفتح بيتا للاجئين, وإقامة دار لمرضي الإيدز في قرية جرنيتش بنيويورك, وتذهب لنيبال لمساعدة ضحايا الزلزال, ولم يكن أي بلد يعد بعيدا في نظر الأم تريزا والراهبات الخادمات معها مهما بعدت مسافته, وعندما غزت العراق الكويت كتبت الأم رسالة مشتركة لكل من بوش وصدام حسين قالت فيها: جئتكما والدموع تملأ عيني ومحبة الله تغمر قلبي إني أتوسل إليكما من أجل الذين سيصبحون أيتاما وأرامل…
جوائز وأوسمة
تعرض الكاتبة عددا من الجوائز التي حصلت عليها الأم تريزا تتويجا للإنجازات التي حققتها ومنها:
* جائزة السلام من الفاتيكان, ومنحها لها البابا يوحنا الثالث والعشرون في عام 1971, وخصصت قيمة الجائزة المادية التي تبلغ 25 ألف دولار لمؤسسة مدينة السلام لمرضي البرص.
* جائزة نوبل للسلام في أكتوبر عام 1979, وقد تحدث رئيس لجنة الجائزة قائلا: الأم تريزا تستحق جائزة نوبل للسلام, إنها تعمل من أجل السلام.
* ميدالية الاكتشاف من جامعة ماركت, وعندما سألها أحد الصحفيين هل حققت أية اكتشافات أيتها الأم؟ ردت قائلة: نعم أعتقد أن البعض يعتبرون قولي أشد الناس فقرا وكذلك المشردون وأمثالم هم يسوع متنكرا يعد في نظرهم اكتشافا…
* وسام شرف من الكونجرس الأمريكي عام 1997.
* وسام الاستحقاق من الملكة إليزابيث الثانية في عام 1983.
عانت الأم تريزا من المرض إلا أنها كانت تقاومه, وواصلت خدمتها علي كرسي متحرك بافتتاح البيت الخيري 565 بمدينة ويلز, وظلت تخدم حتي تنيحت في سبتمبر عام 1997وفاضت روحها وهي تقول: إني أحبك يا يسوع, تم تحنيط جسدها ولفه بالعلم الهندي وأقامت الهند جنازة رسمية لها تشبه جنازة غاندي, وقد جاء موتها بعد خمسة أيام من موت الأميرة ديانا وكانت كل منهما تكن للأخري احتراما ومحبة فائقين.
ما علمتني الأم تريزا
تعرض الكاتبة في الجزء الثاني من كتاب الأم تريزا كيف جاءتها فكرة الكتاب, عندما كانت منتدبة لتدريس الجغرافيا الهندية بمدرسة القديس يوسف الثانوية بهاواي, ورأت كيف أن التلاميذ تتلهف لاستعارة الكتب التي تتحدث عن الأم تريزا.
وقد اعتمدت في إعداد الكتاب علي خطاب ميشيل جومز صاحب البيت الذي تحول بيتا لمكرسات لعمل الخير, فكان يمدها بكافة المعلومات والكثير من أعمال الأم تريزا والخادمات معها, وتقول الكاتبة: لقد استطعت عمل الكتاب عندما انخرطت في عمل الأم تريزا, فقد أصبحت عضوة في جمعية العاملات معا وقد علمتني الأم تريزا أنه بدون المحبة لا توجد رحمة أو رأفة, علمتني كيف أحب الله من كل قلبي ومن كل فكري ومن كل نفسي. علمتني أن أحب يسوع في شخص كل من أقابله. علمتني أن أكون مستعدة في كل وقت أن أغفر وأسامح. ساعدتني علي أن أتغلب علي الخوف من الموت لأنه الطريق إلي وطن الله.
وتنهي الكاتبة هذا العمل بخاتمة توضح فيها عمل الله معنا في أنه قدم لنا الأم تريزا لتنير لنا الطريق, وقد واصل الجميع من راهبات الأم تريزا الخدمة وتركت لنا ما يزيد عن 4500 راهبة, 585 بيتا في أكثر من 120 بلدا في العالم.
يا لروعة هذا الكتاب, الذي تعلمت منه الكثير, وأن هناك أناسا لابد أن يحصلوا علي حقوقهم وكرامتهم, إن لم يكن بالقانون, علينا أن نشعرهم نحن ولو كل واحد حسب طاقته بأنهم موجودون ومرغوبون.
==
قالوا عنها
* الأم تريزا عاشت تخدم الكل وتبذل كل جهد, لأنها شعرت أنها تخدم المسيح نفسه في شخص الفقراء والمحتاجين.
أنبا أباكير الأسقف العام للكنيسة الأرثوذكسية
* من الانتماء إلي ألبانيا إلي الانتماء إلي كلكتا بل الانتماء إلي أفقر الناس حبا في الله الذي يتضامن معنا جميعا… هذا الانتماء خلاصة كيان القديسة التي أحبت الله والناس جميعا.
الأب كريستيان فان شين اليسوعي
* لا شك في أن القديسة تريزا ستظل ذكراها في وجدان كل فرد من أفراد البشرية وسيظل العطاء الذي قدمته للبشرية عطاء خالدا, لأنه يتخطي الزمان ويتخطي المكان, وأذكر للتاريخ أن اسمها كان يتردد علي ألسنة كثيرين من المفكرين الذين أسهموا في مؤتمرات السلام والحوار بين الأديان والتي عقدت في العديد من البلدان الأوربية, كما أن فكرها وأعمالها كانت تتردد في العديد من الأديرة سواء بمصر أنبا مقار أو أسيزا بإيطاليا, إنها من الشخصيات الخالدة التي ينطبق عليها القول بأن ذكري الإنسان ستظل مستمرة إذا عمل في الحياة الدنيا لأجل المستقبل الخالد والمستمر.
د.عاطف العراقي – مفكر وفيلسوف