كيف مضت الأيام هكذا سريعاً؟ عشرون عاماً مضت منذ وفاة “جدو أنطون”، أو كما يدعوه الناس من حولي القبطي البارز “أنطون سيدهم” – مؤسس جريدة وطني.. بعد عملي مع أسرة وطني، أجدني يوماً بعد يوم في مواجهة القيمة الوطنية لهذا الرجل ورسالة حياته التي غرسها في نفوسنا دون أن ندرك كيف ومتى.. وأدركت حينذاك كيف أثر جهاد أنطون سيدهم من خلال دفاعه عن قضايا الأقباط في قلوب الآلاف.
و لكن… ذكرياتي مع “جدو أنطون” لم تتضمن أيا من تلك التعبيرات البليغة المنمقة، فلم يكن بالنسبة لي و لأفراد أسرتي على مدار حياته غير الأب والجد الحنون المعلم، الحازم ،المدلل. لم أسمعه يوماً يتحدث عن قيمته الوطنية أو عن مكانته في قلوب العامة… اكتشفت ذلك بنفسي بعدما فارق دنيانا بجسده. عشت في بيت جدي سنين طويلة لم أسمعه خلالها يتحدث عن عمله والصراعات التي خاضها ولا عن نجاحاته أو اخفاقاته.
ويوم رحيله أذهلني الذين جاءوا يودعونه ويبكونه حزناً على فراقه… هالني كم الحب والاحترام المكنون له في القلوب. كلما قرأت أو سمعت ما كُتب أو قيل عنه زاد انبهاري بشخصيته و بتفانيه في تأدية رسالته و امتلأ وجداني فخراً به.
اكتشفت أن حياته كانت مثالً للقيم التي يتحدث عنها الكثيرين: الشعور بالآخر، الحكمة، التروي، الانتماء، التضامن، الوحدة الوطنية… قيم لمستها في حياته وغرسها بداخلي دون أن أدرك، ودون أن يتحدث عنها.
الوحدة الوطنية التي كان مهموماً بها كانت بارزة في تعاملاته مع الاخرين. فبينما كان يناضل لكي يتساوى الاقباط في حقوقهم مع المسلمين كان واعياً ومشغولاً بباقي القضايا الملحة في مصر.
كان “جدو أنطون” حاضراً بحنانه وسخائه وخفة دمه في حياة كل أفراد أسرتنا. أتذكره على مدار عشر سنوات يقطع قيلولته ويصطحبني إلى البيت بعد المدرسة، ثم يجهز لي طعام الغذاء و يذكرني بأهمية تناول الفاكهة…وكان يقدس اللقاءات العائلية، حين نتجمع في بيته أسبوعياً لقضاء يوم عائلي دافئ يغمره بالحب والدعابة والذكريات الجميلة. وكنا نملأ البيت ضحكاً و صخباً، أتذكره ينظر الينا ويداعبنا قائلاً: “لما انتم كلكم بتتكلموا امال مين بيسمع.” و أيضاً كان يضحك و يقول: ” حيطان البيت بتتهز من دوشتكم.”… من أحب الذكريات إلى قلبي تجمعنا نحن الأحفاد حوله في حجرته ليوزع علينا أنواع الحلوى المختلفة التي أتى بها لنا… كم كنا ننتظر هذا الحدث كل أسبوع لنكتشف الجديد الذي أتى به.
كنا نقضي أيام الأعياد أيضاً في بيت جدي. بينما كنت أسمع من الأصدقاء فرحتهم بالخروج للنزهة في أيام الأعياد كانت أحب الأوقات الي نفسي قضاء أيام الأعياد وسط أسرتنا ملتفين حول جدي و جدتي الأحباء. ففي عيدي الميلاد والقيامة كان جدي يفرحنا بالعيدية. و ليلة أحد السعف يجدل لأحفاده السبعة السعف الذي كنا ندور به بفخر فرحين في الكنيسة يوم أحد الشعانين، شاعرين أن سعفنا الذي جدله جدو لنا أرقى وأجمل السعف. أتذكره أيضاً يوم عيد الغطاس يقطع لنا القصب قطعاً صغيرة.
وكانت أتعس الأيام عندما يسافر مع جدتي و نحرم من اللقاءات العائلية المبهجة في بيتهم. كنا نعد الأيام حتى رجوعهم إلى مصر في وسطنا. بقيت تلك الذكريات محفورة في قلوبنا جميعا نتذكرها دامعين باسمين كلما تذكرنا “جدو أنطون”.
حياة “جدو أنطون” أثرت فينا جميعاً دون أن نلحظ ذلك، فبدون أن نشعر آمنا بقضيته وسعينا لتكملة المشوار الذي بدأه هو… أرى اليوم البذور التي زرعها بداخل أسرتنا وأسرة وطني تطرح ثماراً غنية، وها نحن مشتركون مع أسرة وطني ماضون بكل اعتزاز نحو تحقيق وترسيخ رسالة “وطني”، التي أسسها جدي بحب و اخلاص منذ أكثر من خمسين عاما.
بعد مرور عشرين عاما مازلت أفتقدك يا جدي لكني أفتخر بأسرتي التي رتبتها قبل رحيلك والتي تسعى بكل حب أن تكمل ما بدأت.