كانت منطقة السرابيوم قبل مجئ الإسكندر جزء من ستة عشرة قرية مصرية وجزء من قرية راقودة النواة الأولى التي تأسست عليها مدينة الإسكندرية على يد الإسكندر الأكبر عام 331 ق.م . وبعد تأسيس مدينة الإسكندرية سميت باسم “اكروبوليس المدينة” أي المكان المرتفع الذي يقوم عليه أهم المعابد والمباني، ومن أهم المباني في الأكروبوليس هو “معبد السرابيوم” أو “معبد الإله سرابيس” وهي تلك المنطقة الواقعة حالياً فوق تل باب سدرة بجوار مدافن المسلمين الحالية والمعروفة باسم مدافن العمود.
وعن فكرة إنشاء المعبد تقول داليا عزت – مفتش أثار بإدارة الوعي الأثري بالإسكندرية،
كان المعبد يأخذ شكل مستطيل، حيث يوجد المدخل ناحية الشرق وكان طول ضلعه من الشرق للغرب 77م في حين بلغ طوله من الشمال إلى الجنوب 87م، وكان البناء يحتوي على عدة مداخل شامخة ويحتوي على أعمدة كبيرة تحيط بجوانبه الأربعة. وتدلنا المصادر القديمة في العصر البطلمي على أن هذا المعبد صممه المهندس اليوناني “بار مينسكوس”
ديانة توحد المصريون والإغريق:
وقالت داليا عزت: بعد وفاة الإسكندر الأكبر اقتسم قوادة الإمبراطورية الشاسعة التي تركها، فكانت مصر من نصيب “بطليموس بن لاجوس” الذي اعتبر مؤسس الأسرة البطليمية.
وقد عمل على اشتراك كلاً من المصريين والإغريق في العمل على تقدم الدولة الجديدة، وقد رأى أن يؤلف بين قلوب هذين العنصرين من خلال الناحية الدينية بإنشاء ديانة جديدة يشترك في التعبد إلى آلهتها المصريين والإغريق معاً.
فكون لجنة من علماء الدين كانت مقسمة إلى جانبين على رأس الجانب المصري الكاهن “مانيتون” وعلى رأس الجانب اليوناني الكاهن “نيموثيوس” واستقر رأي الجانبين على أن يكون محور الديانة الجديدة هو الثالوث المقدس ليكون من الإله سيرابيس والألهة ايزيس وإبنها الإله حربوقراط.
وقد كانت الإلهة “ايزيس” والإله “حربوقراط” من الألهة المصرية الأصيلة، أما “سيرابيس” فقد كان هو نفسه الإله المصري “اوزر حابي” وكان الإغريق يدعونه “اوسرابيس” وقد اشتق اسم “سيرابيس” من العجل “ابيس” الذي اتحد مع “اوزوريس” مكوناً اسم “اوزر حابي” أو “سيرابيس” أي “العجل ابيس” بعد وفاته.
وقد توصل رجال الدين إلى تقديم “سيرابيس” في شكلين إلى المصريين والإغريق في صورة تناسب آرائهم ومعتقداتهم، فأستقر رأيهم على تصوير الإله الجديد بشكل رجل ملتحي ملامحه مثل الإله “زيوس” – كبير الألهه اليونانية حيث يحيط بوجهه ذقن كثيفة وتنسل على جبهته خمس خصلات من الشعر بينما يحمل على رأسه سلة من الأسرار المقدسة.
أما بالنسبة للهيئة المصرية للإله “سيرابيس”، فكانت فى صورة العجل المقدس “ابيس”.
أهم الحفائر التي تمت بالمكان:
تمت بالمكان العديد من الحفائر كان من أهمها حفائر العالم الأثري “بوتي” في عام 1895م وكذلك حفائر العالم “ألان رو” في عام 1943-1944م والذي قام بالكشف عن ثلاث مجموعات من لوحات ودائع الأساس الخاصة بالمعبد:
الأولى تحت أساس الركن الجنوبي الشرقي لسياج المعبد البطلمي
الثانية تحت أساس الركن الغربي لهذا السياج
الثالثة تحت أساس الركن الجنوبي الشرقي في المعبد نفسه
وتتألف كلاً من المجموعتين الأولى والثانية من عشر لوحات من الزجاج، وواحدة من كل من المواد التالية الذهب والفضة والبرونز وطمي النيل، وتتألف المجموعة الثالثة من أربع لوحات إحداهما من الطمي والثلاثة الباقية من الزجاج.
وكل اللوحات تحمل نقشاً واحداً مكتوب بالهيروغليفية والإغريقية وفحواه أن الملك بطليموس وارسينوس الإلهين الأخوين شيدا لسيرابيس المعبد والسياج المقدس، وهذه اللوحات محفوظة بالمتحف اليوناني الروماني.
وبذلك فتاريخ المعبد يرجع إلى عصر “بطليموس الثالث” و”بورجيس الأول” (246-221 ق.م.)
ولم يتم العثور على أي بقايا من مباني المعبد التي كانت مقامة فوق الأرض، وإن كانت قد عثر في طرفة الجنوبي على بعض الدهاليز التي نحتت في الصخر تحت الأرض.
وقد تهدم المعبد البطلمي في عهد الإمبراطور “ترجان” (98-117م) على أثر القتال الذي دار بين الإغريق واليهود.
وعلى أطلال المعبد البطلمي أقام الإمبراطور”هادريسان” (117-138م) معبداً آخر.
وقد عثر العالم الأثري “بوتي” على تمثال للعجل “ابيس” من عصر هذا الإمبراطور، ونقل إلى المتحف اليوناني الروماني.
ومن المؤكد أن “السرابيوم” كانت له أهمية خاصة في العصر الروماني، حيث ازدهرت عبادة الإله “سيرابيس” في جميع انحاء مدن البحر المتوسط، وقد اعتنى الأباطرة بالمعبد عناية خاصة، فقد حرص كلاً من الإمبراطور”فسيبيسان” (69-79 م) والإمبراطور”كساراكلا” (211-217 م) اثناء وجودهم بالإسكندرية على زيارة المعبد بل وبتقديم الأضاحي والقرابين.
وقد تهدم معبد “السرابيوم” مرة أخرى عام (391م ) فى عهد “ثيؤدوسيوس”، وفيما بعد اٌقيم على أنقاض هذا المعبد كنيسة تحمل اسم القديس يوحنا المعمدان، وقد ظلت هذه الكنيسة تؤدى وظيفتها حتى تهدمت في القرن العاشر الميلادي.
محتويات المنطقة:
الممرات السرية:
وأضافت داليا عزت أن المنطقة تحوي الكثير من الممرات السرية الخاصة بمعبد السرابيوم التي ترجع إلى عصر المعبد البطلمي من (القرن الثالث ق.م.) واكتشفها (بوتى)، وهي عبارة عن ممر محفور في الصخر يمتد لمسافة 70 م حتى يصل إلى أسفل العمود وعرض هذا الممر من المدخل 1,5 م وهو يحتوي على مجموعة من الفجوات، ربما كانت تستخدم لحفظ لفائف البردي بالمعبد أو لحفظ الحيوانات المحنطة.
وقد ساد اعتقاد بأن هذه الممرات كانت جزء من المكتبة أو التي كانت ملحقة بمعبد “السرابيوم”، وقد ازدادت أهميتها بعد حريق المكتبة الكبرى أثناء حرب الإسكندرية، حيث نقل إليها ما تبقى من نفائس الكتب الخاصة بالمكتبة الكبرى.
قدس الأقداس:
وبها أيضا قدس الاقداس الذي يرجع إلى العصر البطلمي وهو عبارة عن ممر محفور في الصخر يسمى بقدس الأقداس، وقد عثر (بوتى) بداخله على تمثال “العجل ابيس” الذي قدمه أهل الإسكندرية للامبراطور”هدريان” مصحوباً بنقش يوناني، كإهداء.
مقياس النيل :
ومقياس النيل من العصر البطلمي ويقع في الجانب الشرقي من عمود السواري، فمن المعروف أن الإسكندرية كانت تصل إليها مياه الشرب عن طريق قناة كبيرة تتفرع من النيل عند شيديا وعلى بعد 27كم من العاصمة. وتتخذ مجرى يشبه كثيراً مجرى ترعة المحمودية حالياً.
واستخدم مقياس النيل في منطقة السيرابيوم لقياس مستوى ارتفاع المياه وقت الفيضان.
وكذلك يوجد بالمنطقة 12 خزان مياه ترجع إلى العصر الروماني، وكانت تستخدم في حفظ المياه إلى أن تصل إليها عن طريق القناة التي تغذي المنطقة بالمياه العزبة، أو عن طريق مياه الأمطار.
حمامات وأحواض التطهير:
وبالمنطقة مجموعة من الحمامات يوجد منها الأن حمام جنوب العمود وهو مستطيل الشكل، وكان يوجد به فتحة صغيرة لنقل المياه المستخدمة للخارج وكان طولة 3,25 م وعرضة 1,98م. وكانت الحمامات بالإسكندرية تأخذ أسماء التماثيل التي تزينها، وقد عثر على جعران ضخم من الجرانيت الأحمر يرجع إلى الأسرة التاسعة وربما كان يزين أحد هذه الحمامات.
وتوجد أيضاً أحواض التطهير التي تقع في شمال العمود، وكانت تملأ بالمياه عن طريق الخزانات التي تقع جنوب العمود. وهذه المياه كانت تصب عن طريق قناة تصل إلى الجزء الخلفي أو الغربي من حوض التطهير. وكان الكهنة يقومون بتطهير البشر في هذا الحوض حيث كان المعتقد أن الإنسان لن تغفر له خطاياه إلا إذا قام الكاهن بتطهيره.
عمود دقلديانوس:
ومن أهم الأثار عمود دقلديانوس (عمود السواري) وهو من أبرز الآثار الرومانية القديمة بمدينة الإسكندرية.
ذلك النصب التذكاري الهائل المسمى ب “عمود السواري” الذي كان دائما موضوع اعجاب الجميع على مر العصور لضخامته وتناسق اجزاءه.
وإلى الجنوب من العمود يوجد تمثالان من الجرانيت الأحمر كل منهما يمثل أبو الهول ولا يحملان أي نقش يحدد تاريخهما وكأنهما يحرصان المكان.
:حدثت تاريخي ضخم
ووراء إقامة هذا العمود حدث تاريخي ضخم وهام، ففي القرن الرابع الميلادي اندلعت بجميع أنحاء مصر العديد من التوترات ضد حكامها من الولاة الذين يحكمون البلاد، نيابة عن الإمبراطور الروماني في مصر.
وكانت من أشد تلك الثورات تلك التي قادها الوالي الروماني على مصر “لوكيوس دوميتيوس دومتيانوس” الذي أعلن نفسه إمبراطور على البلاد ونظراً لأهمية مصر لروما حيث كانت تمدها بالقمح الذي تتغذى عليه الإمبراطورية الرومانية.
فلقد قاد الإمبراطور الروماني في ذلك الوقت دقلديانوس (284-305 م) الجيش وقدم به إلى مصر، وبعد فترة حصار طويلة لمدينة الإسكندرية دامت قرابة ثمانية أشهر انتشرت فيها الفوضى والاضطرابات والجوع، استطاع هذا الإمبراطور اخماد تلك الفتنة، وقام بتوزيع جزية القمح التي كانت ترسلها مصر سنوياً إلى روما على الأهالي مما أدى إلى الاستقرار واستتباب الأمن.
وكتعبير عن الشكر والإمتنان لهذا المعروف الذي اسداه “دقلديانوس” لمواطني المدينة، اصدر الوالي الجديد “بوستيموس” عام (297 م) أوامره بنحت وإقامة هذا العمود.
وصف العمود:
وقد اطلق على العمود عدة أسماء منها “عمود السوارى” – وهو الإسم الذي عرف في العصر الإسلامي، وربما يرجع ذلك الإسم إلى الإرتفاع الشاهق للعمود بين الأربعمائة عمود التي تشبه الصواري التى كانت تحيط بمعبد السيرابيوم والتي أمر حاكم الإسكندرية في عهد صلاح الدين الأيوبي والذي يدعى (اسد الدين فراجا) بإلقائها في البحر حتى يعوق الأعداء من الدخول للمدينة.
وقد ظل هذا الإسم باقياً حتى الأن بل أطلق اسم العمود على مدافن المسلمين المجاورة للمنطقة الأثرية.
أما فى العصور الوسطى فقد ساد اعتقاد بأن رماد جثة القائد الروماني “بومبى” والذي هرب إلى مصر فراراً من يوليوس قيصر وقتلة المصريون، قد حفظت في إناء جنائزي وضع فوق تاج العمود ولذلك اطلق عليه خطأ اسم “عمود بومبى”
تحفة فنية:
العمود عبارة عن كتلة من الجرانيت الوردي ويتكون من القاعدة والبدن والتاج.
وبدن العمود عبارة عن كتلة واحدة يبلغ طولها 20,75م وقطره من أعلى 230 سم ومن اسفل فيبلغ قطره270سم، والارتفاع الكلي للعمود بما فيه القاعدة والتاج يصل إلى 26,85م
أما عن إقامة العمود فمن المعروف أن بعد قطعه من محاجر الجرانيت بأسوان، نقل عن طريق النيل ثم حمل في الترعة التي تمد الإسكندرية بالمياه العذبة والتي كانت تبعد في جزء منها عن المنطقة بمسافة 570م، ومن الترعة نقل إلى حيث يوجد الأن.
وتاج العمود ينتمي إلى نوع التيجان التي تتميز بالزخرفة النباتية ذات الطراز الكورينثي. وقد وضعت قاعدة العمود على أساسات من الأحجار الصلبة المتعددة كالجرانيت والبازالت والكوارتز وهي عبارة عن كتلة تحمل نقش هيروغليفى يتضمن أسماء الملوك من الأسرة الثانية عشر مثل: “سونسرت الثانى” و”سونسرت الثالث”، كذلك جزء من مسلة عليها نقوش هيروغليفي يحمل اسم الملك “تحتمس الثالث”، وأيضا كتلة مزينة بصورة الملك “سيتى الأول” من الأسرة التاسعة عشرة ومصحوبة باسمه مكتوب بالهيروغليفية، وكذلك كتلة عليها خرطوش يحوي اسم الملك “بسمتيك الأول” من الأسرة السادسة والعشرين. وأخيراً جزء من قاعدة تمثال من البازلت تحمل نقشاً يونانياً يدل على أن التمثال كان للملكة البطلمية “ارسنوي الثانية” – زوجة الملك “بطليموس الثانى” (فلادلفيوس).
ونجد على الجزء العلوي من قاعدة العمود على إحدى جوانبه نقشاً يونانياً محفوراً يمكن قراءته فقط عندما تسلط عليه أشعة الشمس وفحوى هذا النقش كالآتي: “إلى الإمبراطور العادل الإله الحامي للإسكندرية دقلديانوس الذي لا يقهر أقام بوستيموس وإلي مصر هذا العمود”
وقد اثار هذا النقش جدلاً كبيراً لأن السطح الجرانيتي قد تآكل بفعل الزمن، ولذلك فإن النقش غير كامل في بعض اجزائه وخاصة اسم الوالي.
ولذلك ظهرت آراء تنفي أن اسم الوالي “بوستيموس”، فقد رأى العالم “فاندي سيجلين” الذي قام بدراسة النقش وقارن بين الإسم الموجود في النقش وبين الإسم الوارد في برديتين من برديات منطقة البهنسا – وهما من عصر الامبراطور “دقلديانوس” – وكان الاسم هو “ايليوس بويليوس” والبردية الأولى تعطينا اسم الوالي بالكامل ومدة حكمه التي بلغت شهرين خلال عام ( 296م)
أما البردية الثانية، فليس لها تاريخ ويعتقد العالمان “جرنفل” و”هانت” أن الوالي الذى أشير إليه في النقش وفي البرديتين هو نفس الشخص “ايليوس بليوس”. وذلك على أساس تطابق تاريخ نقش عمود دقلديانوس.
وقد حرص علماء الحملة الفرنسية على تسجيل العمود في كتاب وصف مصر.
ويقال أن نابليون بونابرت وبصحبته قواده العسكريين قد زاروا الموقع، وجلس نابليون على قاعدة العمود ليسجل أن المدينة قد وقعت في قبضته.