مشروع حياة
تذكر ليلي دوس في مذكراتها أن اسم الجمعية كان يجب أن يكون “جمعية مكافحة السل” ولكن كانت تعتقد هي وصديقاتها بسزاجه – على حد تعبيرها – أن الجمعية ستستطيع في سنوات قليلة القضاء على هذا المرض اللعين، ويتم الإهتمام بعدها بأمراض ومشاكل صحية أخرى، مثل مشكلة أطفال الشوارع، والأطفال المعاقيين. ولذلك كان الاسم” تحسين الصحة” أشمل وأعم.
ورحب الكثيرين من أفراد المجتمع بعمل الجمعية وبدأت الأسر الثرية بالتبرع للجمعية بدعم مالي وتبرعات من الملابس والأطعمة. وبدأت الجمعية بمكتب متواضع بحي عابدين عام 1936، وكانت تذهب ليلي في الثامنة صباحاً مع إيفي – انجليزية الجنسية ومتزوجة من رئيس الهلال الأحمر في ذلك الوقت. وكانتا تقومان بتنظيف المكان وتقسيم التبرعات وشراء العبوات التي يتم وضع الملابس والأطعمة فيها لتوزيعها على أسر المرضى.
واقترحت إيفي يوماً تنظيم سهرة في دار الأوبرا تحيها أم كلثوم لجمع تبرعات للجمعية، وكان يجب الحصول على ترخيص من وزارة الداخلية في ذلك الوقت – حيث لم تكن قد انشئت وزارة الشئون الاجتماعية حتى عام 1938. وقبلت الملكة فريدة دعوة الجمعية لحضور الحفل وكان هذا أكبر دعم للجمعية.
استطاعت الجمعية في نهاية عام 1937 بفتح حساب باسم الجمعية بمبلغ 1000 جنيه مصري في بنك مصر – وهو أول بنك مصري اسسه طلعت حرب، وأقامت الجمعية فيما بعد عدة أسواق خيرية، ولكن عندما شكت ليلي لوالدها أنهم يبذلون مجهوداً كبيراً في إقامة الحفلات والأسواق الخيرية، اقترح عليها توفيق دوس المحامي أن يتم عمل الحفلات الراقصة لتدعيم الجمعية داخل منزلهم – والذي كان عبارة عن قصر على ضفاف النيل في منطقة الزمالك، وكانت هذه مفاجاة لليلي.. ونجحت الفكرة ورحب الجميع بحضور هذه الحفلات وتم طبع 300 تذكرة وكان الشباب يستمتع بالرقص في هذه الحفلات ويجتمع كبار السن حول الموائد ليتبادلوا الحديث، وكانت الفنانة تحية كاريوكا من أكثر المتطوعات برقصها في حفلات الجمعية وظلت مخلصة لجمعية تحسين الصحة ولليلي على مدى سنوات طويلة.
مواجهة الجهل
ولفت نظر ليلي وصديقاتها أن هناك ارتفاع في عدد الأطفال المصابين بالسل كعدوي من أحد الوالدين نتيجة إقامتهم في نفس المكان. فتواصلت ليلي مع محافظ القاهرة الذي وفر لهم مبنى دورين بشارع محمد علي لإعالة الأم وأطفالها لحين علاج الأب المريض بالمستشفى.
وكانت هناك محاولات لتدريب الأطفال على العادات الصحية السليمة ومنها عدم الأكل أو الشرب مكان الآخرين.. وحرصت الجمعية على محاولة توفير عمل لرب الأسرة بعد شفاءه من المرض حتى لا يعتمد علي المساعدات المادية، فكانت تسعى مع المسئولين لبيع الجرائد والكتب ومستلزمات المدارس، وفتح حساب توفير لكل رب أسرة مريض يستطيع بعد شفاءه أن ينميه من خلال عمله الذي كانت تسعى الجمعية لتوفيره له.
ولاحظ أيضاً المسئولين بالجمعية، زيادة عدد المواليد في الأسر المريضة، فحاولت الجمعية التواصل مع وزير الصحة بفتح عيادة تدعي إلى تنظيم الأسرة ولكن تم ذلك بشكل غير رسمي، حيث أن المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية كانت ضد هذا في ذلك الوقت.. حتى أن ليلي تذكر في مذكراتها أن أحد الأزواج جاء إلى مكتبها بالجمعية مهدداً إياها بالسكين لأنها اقنعت زوجته بوقف الإنجاب حيث كان الرجل مريض بالسل واثنين من أبنائه مرضى بالسل والجمعية تعول اثنان آخرين.
مدينة تحسين الصحة
وبدأت رحلة البحث من قبل الجمعية عن أرض كبيرة لإقامة مدينة كاملة تكون بمثابة ملجأ لإعالة أطفال الأسر التي يكون رب الأسرة فيها مريض..
وبالفعل اقترحت عليهم زهيرة مرزوق – وكيل وزارة الشئون الاجتماعية، في عام 1944 بإلقاء نظرة على قطعة أرض في طريق الفيوم مملوكة للدولة، وكان بها معكسر بريطاني مهجور.
وبالفعل قادت ليلي وصديقاتها رحلة كفاح طويلة لإعداد المكان وتوصيل المياه والمرافق إليه حتى يصبح صالحاً للمعيشة واقترحت “إيفي” أن يلجأوا إلى وزارة الداخلية للاستعانة بالمسجونين في تعمير المكان وإقامة المباني والحدائق اللازمة حتى يصبح جو المكان صالح للمعيشة، ورغم غرابة الطلب وافقت الداخلية ولكن بشرط ان تقوم الجمعية بتوفير الطعام للمساجين في فترة عملهم وتوفير وسائل المواصلات لهم تحت اشراف مصلحة السجون.
وتقول ليلي في مذكراتها أنها كانت تنزل صباحاً كل يوم لتركب السيارة التي تنقل المسجونين إلى المدينة وتشعر أن الجيران اعتقدوا أن عليها حكماً تقوم بتنفيذه ولكن يسمح لها بالمبيت في منزلها باعتبارها ابنة وزير سابق.
قرار بالإخلاء
وبعد إعداد المدينة على أعلى مستوى فوجئت ليلي بقرار إخلاء فوري من المكان حيث أن وكيل الوزارة المسئول عن بيع أراضي الحكومة قام عام 1945 بمطالبتهم بالإخلاء الفوري، بحجة أن المدينة مبنية على هضبة تشوه البيئة الطبيعية للأثار التاريخية – أي أهرامات الجيزة! وخاضت ليلي وزميلاتها حرباً عن طريق إثارة الموضوع في الصحف الكبرى وقتها، مثل اخبار اليوم والأهرام والمصري.. وكتب مصطفى أمين عن كيف تهدم الحكومة هذا المشروع الإنساني المهم.. وكانت الصحف في ذلك الوقت تملك حرية التعبير لأن معظمها كان ملك أشخاص وطالما كان هذا النقد بعيد عن الأسرة المالكة..
والتقت ليلي وزميلاتها مع ابراهيم عبد الهادي – رئيس ديوان الملك فاروق، والذي اشاد بالعمل الذي تقوم به الجمعية ووصف ما تفعله الجمعية بأنه هرماً حي يرفع مستوى الشعب، وتم الموافقة على منح الأرض للجمعية وتم الافتتاح الرسمي لمدينة تحسين الصحة عام 1949 بحضور شقيقتي الملك فاروق فوزية وفايزة..
ومنذ ذلك التاريخ حتى السبعينات أصبحت المدينة على قائمة الزيارات لزوجات كبار الزوار وعلي سبيل المثال لا الحصر زار المكان الزعيم الهندي نهرو وابنه انديرا غاندي عام 1954، كما زار المكان زوجة الرئيس الامريكي نيكسون، وفرح ديبه زوجة شاه ايران، كما زار المكان طلاب المدارس والعاملين بالخدمات الإجتماعية من جميع أنحاء العالم.
وكان دائما ينال المكان إعجاب الزوار وفكرة تقديم الدعم المعنوي والاجتماعي لأبناء المرضى حيث تم استقبال أطفال من سن الحضانة وتم عمل مدرسة للمدينة لتعليم الأبناء وتدريبهم على مهن مختلفة حتى يستطيعوا الاعتماد على أنفسهم ولا يصبحوا عبء على رب الأسرة المريض، وذلك مع استمرار الدعم المادي والعيني لجميع أفراد الأسرة.
وتم فتح عدة مصانع لتشغيل الأولاد فيها، حتى أن وزير الصحة عبده سلام أمر كل المستشفيات الحكومية أن تشتري كل احتياجاتها من الشاش من المصنع الملحق بالمدنية. وكان هناك تعليم لصناعة السجاد، والنجارة وغيرها من الحرف الأخرى.
وواجهت ليلي دوس العديد من المشاكل في زمن الرئيس جمال عبد الناصر، وكانت تصاب بالإحباط أحياناً ولكنها كانت تعاود نشاطها من جديد للحفاظ على الصرح الذي كرست حياتها من أجله ورفضت الزواج وكرست حياتها من أجل المحتاجين والمتضررين.
وقامت ليلي بالكثير من السفريات لمعظم بلاد العالم ومن سفرياتها حول العالم وكانت دائما تكتسب خبرات في العمل الاجتماعي وتعود لتطبقها علي مدينة تحسين الصحة.
حلم قديم
ولم تنسى ليلي دوس حلمها القديم في مواصلة التعليم الجامعي، فقامت بعمل معادلة للثانوية العامة وحصلت عليها والتحقت بالجامعة الأمريكية بكلية الآداب، وقدمت أيضا على رسالة ماجيستير في الأدب المقارن، وكان ذلك بعد أن تخطت سن الستين، مما يدل على شخصية غير عادية لديها التصميم والطموح وتحقيق ما تريد.
جائزة أفضل بحث
وعلمنا بالتواصل مع الدكتورة مديحة دوس – إبنة أخ ليلي دوس، أن ليلي دوس عمتها رصدت جائزة مالية باسم والدها توفيق دوس، تعطى عاماً بعد الآخر لأفضل رسالة ماجيستير يتم مناقشتها بالجامعة الأمريكية. وذلك منذ أكثر من عشرين عاماً، وكانت ليلي دوس تحضر حفل تسليم الجائزة في حياتها..
وذكرت الدكتورة مديحة أن الجامعة دعتهم هذا العام لحضور حفل تسليم الجائزة ولأول مرة تغيب ليلي دوس عن حضور هذا الحفل لوفاتها.والجدير بالذكر أن الدكتورة مديحة دوس هي من أكثر المقربين لليلي دوس وكانت تشرف على علاجها على مدي عشر سنوات. وذكرت أن ليلي دوس قامت بكتابة مذكراتها على مدى 16 عاماً باللغة الانجليزية، ولكن إحدى صديقات الدكتورة مديحة قامت بترجمة هذه المذكرات وطبعتها في شكل كتاب تحت اسم “عشت وشفت مذكرات ليلي دوس” – ترجمة لميس النقاش، ورأت ليلي دوس هذا الكتاب قبل وفاتها بشهور قليلة.
والجدير بالذكر أيضاً أن الدكتورة مديحة دوس هي استاذ الأدب المقارن بكلية الأداب، والغريب أن ليلي دوس كانت تعتبر مديحة دوس وهي في سن حفيدتها تقريبا هي الأم الروحية لها، كما جاء ذلك في مذكراتها.
وبعد أن قدمنا محطات في مشوار حياة ليلي دوس نتساءل هل يجود الزمن بمثل هذه الشخصيات التي كرست حياتها لتحقيق رسالة لأنماط من البشر تعيش حياة يملأها المرض والفقر والجهل.. ولكن وضع الله في قلب هذه السيدة احشاء رأفات لتحس بآلام الآخرين وتحاول مشاركتهم في ألامهم رغم الارستقراطية التي نشأت عليها.