إذا كان تيارالقومية المصرية بدأ – كما يرى البعض – منذ رفاعة الطهطاوى، وتعمـّـق وتجذرمع أحمد لطفى السيد وآخرين من حزب (الأمة) فإنّ ثورة شعبنا فى شهرمارس/ برمهات1919، أيقظتْ كثيرين ونبـّـهتهم إلى خصوصية الثقافة القومية المصرية، وصلتها (وبالأدق) علاقتها بالحضارة المصرية، لذلك فإنّ توفيق الحكيم، فى ظل هذا الزخم القومى كتب فى رسالة منه إلى طه حسين (مايو 1933) قال فيها ((لابد لنا أنْ نعرف من المصرى ومن العربى؟ العرب أمة نشأتْ فى فقرلم تعرفه أمة غيرها. صحراء فقراء. قليل من الماء يثيرالحرب والدماء. أمة لاقتْ الحرمان وجهًا لوجه. وماعرفتْ طيب الثماروجرى الأنهارورغد العيش. كل شىء عند العرب سرعة ونهب واختطاف.
لم تفتح أمة العالم بأسرع مما فعلت العرب. ومرّالعرب بحضارات مختلفة، فاختطفوا من أطايبها اختطافــًـا ركضًا على ظهورالجياد. كل شىء قد يحسونه إلاّعاطفة الاستقرار. وكيف يعرفون الاستقراروليس لهم عمران؟ وحيث لا استقرارفلا تأمل، وحيث لاتأمل فلا ميثولوجيا ولاخيال واسع ولاتفكيرعميق ولا إحساس بالبناء. لهذا السبب لم تعرف العرب البناء، سواء فى العمارة أوفى الأدب أوفى النقد. كل شىء عند العرب زخرف. الأدب (نثروشعر) لايقوم (عند العرب) على البناء، فلا ملاحم ولاقصص ولاتماثيل. أما النحت والتصويرفليس فى طبيعتهم، لأنّ تلك الفنون تتطلب فيمن يزاولها إحساسًا عمقــًـا بالتناسق العام، مبناه التأمل الطويل والوعى الداخلى للكل فى الجزء، وللجزء فى الكل. وليس هذا عند العرب، فهم لايرون إلاّ الجزء المنفصل، لأنهم لايحتاجون إلاّ للذة الجزء واللحظة. وحتى إذْ يـُـترجمون عن غيرهم يُسقطون كل أدب قائم على البناء. فلم ينقلوا ملحمة واحدة ولاتراجيديا واحدة ولاقصة واحدة. العقلية العربية لاتشعربالوحدة الفنية فى العمل الفنى لأنها تتعجل اللذة. لهذا كله قصرالعرب وظيفة الفن على ما ترى من الترف الدنيوى وإشباع لذة الحس. من المستحيل أنْ ترى فى الحضارة العربية كلها أى ميل لشئون الروح والفكربالمعنى الذى تفهمه مصروالهند من كلمتىْ الروح والفكر. إنّ العرب أمة عجيبة. تحقق حلمها فى هذه الحياة ، فتشبثتْ به تشبث المحروم. وأبتْ إلاّ أنْ تروى ظمأها من الحياة. وأنْ تعب من لذاتها عبًا قبل أنْ يزول الحلم وتعود إلى شقاء الصحراء))
أعترف أنّ كلمات توفيق الحكيم قد تمثل صدمة للبعض، وقد يختلف كثيرون معه، إنما هدفى من إثبات هذه الكلمات التى كتبها عام 1933، هوإحساس الحكيم العميق بمصريته، أى أنه كان يُـدرك الفارق الحضارى والثقافى بين شعبنا المصرى والعرب، بغض النظرعن الإتفاق أوالاختلاف حول مضمون كلماته.
يؤكد ما أذهب إليه أنّ الحكيم فى رسالة أخرى منه إلى طه حسين أيضًا كتب (( إنّ المنطق الذى شيـّـد الأهرام لهوصورة محكمة للمنطق الذى شيّد الكون. وأنّ القاعدة التى بُنى عليها الوجود، هى التى بُنيت عليها الأهرام، هى قاعدة كل بناء: التماسك بين الأجزاء فى كل واحد متسق، أىُ جمال للأهرام غيرذلك التناسق الهندسى الخفى؟ وتلك القوانين المُستترة التى قامتْ عليها تلك الكتلة من الأحجار: جمال عقلى داخلى. هذا الإدراك للجمال الخفى فطن إليه المصريون القدماء يوم صنعوا الأهرام. أتستطيع أنْ تتخيل العرب تبنى الأهرام؟ أوتـُـقـدّرفيها جمالا؟ لقد جاء العرب مصروتحدثوا بجمال نيلها وأرضها وسمائها، ولم يروا فى الأهرام إلاّشيئــًـا قد يحوى نقودًا مخبوءة. أما بناؤه فشىء لايُحسب فى الفن))
وعن تأثيرالحضارة المصرية كتب ((الفن الحديث كله، من تصويرونحت وعمارة، انطلق يبحث عن وسائل جديدة للتعبير، فوجدها فى مصرالقديمة : وجد البساطة فى التخطيط. وجد طريقة تركيب الأشكال المختلفة على قواعد هندسية (الكوبزم) وجد أساليب الحركة والإضاءة فى التماثيل والأعمدة مما لانظير له فى قوة الأداء وبساطته. كل ذلك وجده الغرب وشيـّـد على أساسه فنــًـا جديدًا)) (تحت شمس الفكر- الطبعة الثالثة- عام1945- دارسعد بمصرللطبع والنشر- من ص41- 79)
والحكيم عندما انتهى من كتابة روايته (عودة الروح) عام 1927، فإنه صدّرالجزء الثانى بأبيات من كتاب (الخروج إلى النهار) الشهيربالاسم الخاطىء (كتاب الموتى) ولأنّ تلك الفترة التى أعقبت ثورة برمهات/ مارس 1919 كانت فترة انبعاث قومى، لذلك نجده يُخصّص فصلا فى كتابه (تحت شمس الفكر) الذى نُشرت طبعته الأولى عام 1938، بعنوان (البعث) ويبدأ هذا الفصل بنداء (حورس) إلى أبيه (أوزيريس):
حورس: إنهض.. أنهض يا أوزيريس..
أنا ولدك حورس..
جئت أعيد اليك الحياة..
جئت أجمع عظامك..
وأربط عضلاتك.. وأصل أعضاءك..
أنا حورس الذى يُكوّن أباه..
حورس يُعطيك عيونًا لترى ..
وأذنًا لتسمع.. وأقدامًا لتسير..
وسواعد لتعمل..
ها هى ذى أعضاؤك صحيحة..
وجسدك ينمو..
ودماؤك تدب فى عروقك..
إنّ لك دائمًا قلبك الحقيقى..
قلبك الماضى..
الميت : إنى حى.. إنى حى..
(من كتاب الخروج إلى النهار)
بعد هذا الاقتباس من الكتاب الذى تركه لنا أجدادنا المصريون، فإنّ الحكيم علــّـق قائلا ((وحورس ليس إلاّ الشباب. يُعيد الحياة إلى ماضيه الميت. نعم هوالشباب الذى يُكوّن أباه الوطن))
واذا كان قانون (المصادفة) قد لعب دورًا فى اكتشاف حجررشيد، وبالتالى فك رموزاللغة المصرية القديمة، فإنّ هذا الاكتشاف كان فتحًا أتاح التعرف على الحضارة المصرية على أسس علمية، لذلك شهدتْ تلك المرحلة الليبرالية من تاريخ مصرالعديد من الكتاب المصريين الذين إهتموا بذلك العلم الجديد (علم المصريات) إذْ انتقل الأمرمن قانون (المصادفة) إلى قانون (الحتمية) فإذا كان العلماء الأوروبيون أمثال: جاردنر، برستد، أدولف إيرمان وآخرين تخصّصوا فى إبرازالدورالرائد للحضارة المصرية وفضلها على الحضارة الإنسانية، فمن العارألاّيكون من بين المثقفين المصريين من يهتم بحضارة جدوده، حتى يُدرك كل مصرى أنه حفيد أصيل لهؤلاء الجدود العظام. لذلك برزت أسماء مصرية، إهتم أصحابها بالكتابة عن الحضارة المصرية أمثال: أحمد باشا كمال (1849 – 1923) وإسكندرسعد الذى كتب عدة مقالات من بينها مقال فى مجلة الكاتب المصرى (يناير 1946) بعنوان (تمثال الكاتب المصرى) قدّم فيه تحليلا نقديًا للقيم الجمالية فى ذلك التمثال الذى جمع فيه الفنان الذى أبدعه بين الثقة بالنفس وقوة الفتوة وجمال السماحة. ناهيك عن رمزالكتابة بالنسبة للبشرية وتقدمها.
أما (رياض شمس) فكتب عدة مقالات فى مجلة الكاتب المصرى منها على سبيل المثال مقال بعنوان: العناصرالثلاثة للقومية المصرية (أغسطس 46) ذكرفيه الخصائص التى ميّزتْ المصريين منذ آلاف السنين وحتى العصرالحديث. وأنّ من أهم عناصرالقومية المصرية: الوجود المستمرللجماعة المصرية، والشعوربالجماعة. وفى هذا المقال يرى صاحبه أنّ الوطنية أصبحتْ (قـِـبلة الجميع) وأنّ “القومية المصرية شعارالجميع”
وفى هذه الفترة يظهرالباحث الجاد (محرم كمال) فيكتب فى مجلة الكاتب المصرى (على سبيل المثال– عدد يوليو 46) مقالا بعنوان (آثارحضارة الفراعنة فى حياتنا الحالية) والعنوان غنى عن التعريف بمضمون المقال الذى تطوربعد ذلك وصدرفى كتاب. ثم كتاب آخربعنوان (الحكم والأمثال عند المصريين القدماء) بالإضافة إلى ترجمته للعديد من الكتب عن الحضارة المصرية كتبها علماء أوروبيون.
وفى عام 46 يصدرالجزء الأول من كتاب (فى موكب الشمس) تأليف د. أحمد بدوى. ويكتب مقدمة الكتاب محمد شفيق غربال. كما يبرزاسم (سليمان حزين) الذى يكتب بصفة شبه دائمة فى مجلة الكاتب المصرى عن الحضارة المصرية، ومن أمثلة ذلك مقال بعنوان ( فيضان النيل وأثره فى الحضارة المصرية) عدد أكتوبر 46. وفى عدد يونيو 47 يكتب عن (رابطة الماء فى وادى النيل) وفى عدد يوليو 47 يكتب عن (رابطة الجنس والثقافة فى وادى النيل) وفى عدد ديسمبر 47 يكتب عن (كيف نشأت المدنية فى مصر) وفى عدد يناير 48 يكتب عن الدور الحضارى لنشأة الزراعة وأثرها فى تاريخ الحضارة الإنسانية.
وفى عدد يناير 48 أيضًا يكتب (كامل صالح نخلة) عن (التقويم المصرى وعلم الفلك فى مصرالقديمة) وفى عدد ديسمبر 46 يكتب (وهيب كامل) مقالاعرض فيه لكتاب المؤرخ والرحالة اليونانى (هيرودوت) عن مصر، وهوالكتاب الذى يُعد أحد المراجع الرئيسية عن الحضارة المصرية برؤية أجنبى وشاهد معاصرللأحداث وهوالمؤرخ الذى وصف المصريين بأنهم ((يزيدون كثيرا عن سائرالشعوب فى التقوى))
وفى عدد يوليو 47 يكتب سلامة موسى مقالا بعنوان (فلسفة للحياة وديانة للضمير) والذى ذكرفيه “أنى حين إنكببتُ على دراسة الفراعنة، إنما كنت أنبعث بروح دينى قومى” . وذكر أيضًا أنّ المرحوم (كامل غبريال) الذى درس اللغة المصرية القديمة (مرحلة الكتابة الهيروغليفية والقبطية، كان يُشجّعه على تعلم اللغة المصرية القديمة.
وفى نفس المقال كتب سلامة موسى “مع أنى نشأت فى المسيحية واحتضنتى الكنيسة أيام طفولتى وصباى، فإنها كانت فى تلك السنين الأولى من عمرى فى جمود لايحمل على الحماسة أويبعث الولاء أويُربى الضمير. وليس شك أنّ الكنيسة القبطية قد نهضتْ هذه الأيام. وهى الآن غيرما كانت عليه قبل خمسين سنة. وقد تغيّرإحساسى نحوها تغيرات مختلفة. فقد عزفتُ عنها أيام الشباب، لأنّ وطأة العلوم العصرية كانت شديدة على نفسى. ثم عدتُ إليها فى حنان، فوجدتُ فيها تاريخنا المعذب الممزق. ووجدتُ صوت الفراعنة ينطق عاليًا من منابرها. فأصبحتْ الكنيسة القبطية عندى كنيسة قومية مصرية.
وكتب “ليس من الضرورى، كى يكون للإنسان ضميردينى، أنْ يؤمن بدين معين. فإنّ جميع الأديان سواء من حيث أنها تنشد الحياة الطيبة. وأذكرهنا أنّ نحوستين عضوًا من جمعية الشبان المسيحية كانوا يصطافون فى صحراء العريش فى سنة 1937. وكان بيننا المسلم والمسيحى واليهودى والبهائى. فكنا فى الصباح نقرأ قطعة من القرآن أوالإنجيل أوالتوراة مناوبة. وكان البهائى يجد فى كل واحد من هذه الكتب كتابًا مقدسًا له.
وعن قيمة التسامح بين الأديان كتب أنّ “الحب هوإتجاه وسلوك وهوالاستطلاع الدائم للكون والرغبة النهمة فى المعرفة. ثم هوالتعاون والتسامح. وهذا الحب هوأيضًا ما انتهى إليه الصوفيون المسلمون مثل محيى الدين بن عربى حين يقول:
لقد كنتُ قبل اليوم أنكر صاحبى .. إذا لم يكن دينى إلى دينه دانى
وقد صارقلبى قابلا كل صورة .. فمرعى لغزلان وديرلرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائــــــف .. وألواح توراة ومصحف قــرآن
أدينُ بدين الحب أنّى توجـّـهـــتْ .. ركائبه فالحب دينى وإيمانــــى
ويتمنى سلامة موسى أنْ “تذاع مثل هذه الأبيات الذهبية وتــُـعلق فى بيوتنا على الجدران. وخاصة فى هذا الشرق العربى الذى يجب أنْ تتعانق فيه الأديان الثلاثة عناق الحب.
وفى عدد يونيو 47 تنشرمجلة الكاتب المصرى مقالامن تأليف العالم (إيتامبيل) عن (الحياة اليومية فى مصر أيام الرعامسة) وترجمه عن الفرنسية مصطفى كامل فودة.
وبعد هذا العرض السريع عن ذلك المناخ الثقافى الذى انتشرت فيه الكتابة عن الحضارة المصرية ، فإنّ الباحث الموضوعى لابد وأنْ يذكرالفضل الكبيرلرائد مهم من روّاد علم المصريات (سليم حسن) الذى كتب موسوعته التى صدرت فى عدة مجلدات عن التاريخ المصرى القديم (ثمانية عشرجزءًا) كما تجدرالإشارة إلى كتابه الذى صدرعام 1945 عن الأدب المصرى القديم، والذى خصص الجزء الأول منه ل (القصص والحكم والتأملات والرسائل) والجزء الثانى تناول فيه (الدراما والشعروفنونه)
000
من الشائع أنّ عميد الثقافة المصرية (طه حسين) كان يرى (خاصة فى كتابه مستقبل الثقافة فى مصر) أنّ مصرلاتنتمى ثقافيًا إلى الشرق، وإنما إلى حوض البحرالأبيض المتوسط وأنّ ((العقل المصرى منذ عصوره الأولى، عقل إنْ تأثربشىء فإنما يتأثربالبحرالأبيض المتوسط )) رغم ذلك فإنّ طه حسين فى نفس الكتاب كتب أنّ اليونانيين “كانوا فى عصورهم الراقية كما كانوا فى عصورهم الأولى، يرون أنهم تلاميذ المصريين فى الحضارة وفى فنونها الرفيعة بنوع خاص”
والأمرالجديربالملاحظة، أنّ التيارالليبرالى الذى كان يرى أنّ مصرتنتمى (ثقافيًا) إلى حوض البحرالأبيض المتوسط ، تمتلىء كتابات أصحابه بالإشادة والإشارة الدائمتيْن بالحضارة المصرية والإعتزازبالقومية المصرية. وقد لخّص د. مصطفى عبدالغنى هذه الثنائية، أوهذا التزاوج بين الليبرالية (الفكرية والسياسية) التى تنهض على أساسها الدولة العصرية، والإعتزاز بمفردات الشخصية القومية لكل شعب من الشعوب. كتب د. مصطفى عبدالغنى أنّ أفكارطه حسين “جلها علمانية. تحتفى بالقومية المصرية والقيم الديموقراطية الغربية. وقد تميّزت القومية عند طه حسين باقترانها ب (المصرية) التى تعود بجذورها إلى مصرالقديمة، متوخيًا فى العودة إلى الوراء إلى تلمس هوية متصلة لامنفصلة. فمصرالقديمة إنما هى كما يعرفها قد اتصلتْ بالعقل اليونانى، إتصال تعاون وتوافق وتبادل مستمرفى الفن والسياسة والاقتصاد ”
يؤكد ذلك أنّ عميد الثقافة المصرية (طه حسين) الذى رأى انتماء مصر(ثقافيًا) إلى حوض البحرالأبيض المتوسط ، هوالذى كتب “إنّ الفرعونية متأصلة فى نفوس المصريين. وستبقى كذلك. بل يجب أنْ تبقى وتقوى. إنّ المصرى مصرى قبل كل شىء. فهولن يتنازل عن مصريته، مهما تغلــّـبتْ الظروف. ولاتصدّقوا مايقوله بعض المصريين من أنهم يعملون للعروبة. فالفرعونية متأصلة فى نفوسهم وستبقى كذلك. وأنّ الأكثرية الساحقة من المصريين لاتمت بصلة إلى الدم العربى. بل تتصل مباشرة بالمصريين القدماء. وتاريخ مصرمستقل عن تاريخ أى بلد آخر”
هذا الإحساس بالقومية المصرية هوالذى أبرزظاهرة انتشارالأسماء المصرية القديمة. فلم يكن الآباء يشعرون بالخجل وهم يُطلقون على أبنائهم أسماء من رموزمصرالقديمة، سواء أكانت هذه الرموزلآلهة مثل (إيزيس) أولأشخاص حقيقيين من الملوك العظام (رمسيس، مينا، زوسرإلخ) وقد ارتبط بهذه الظاهرة، ظاهرة أخرى هى إطلاق الأسماء المصرية القديمة على عدد كبيرمن المحلات التجارية وشركات السياحة والفنادق، مثل: شركة آمون لكذا، وشركة حورس لكذا، أوالشركة الفرعونية لكذا، أوفندق إيزيس إلخ.
كما أننا نجد أنّ الإعتزازبالحضارة المصرية يدفع البعض إلى اختياراسمًا من الأسماء المنتشرة فى مصر القديمة، وعلى سبيل المثال (بالطبع) فإنّ الفنانة الممثلة عزيزة أمير(مواليد دمياط 1901) اسمها الحقيقى مفيدة محمد غنيم. أما اسم عزيزة أميرفقد اختاره لها الممثل والمخرج يوسف وهبى. بينما هى أطلقت على نفسها اسم (إيزيس) وعندما أسّست شركة سينمائية أسمتها (إيزيس فيلم) وقد توفيت عام 1952 بل إنّ الكاتبة اللبنانية (مى زيادة) أطلقت على نفسها اسم (إيزيس)
والحس القومى هوالذى جعل الشاعرإبراهيم ناجى إلى أنْ يكتب:
أجل إنّ ذا يوم لمن يفتدى مصرا .. فمصرهى المحراب والجنة الكبرى
حلفنا نولى وجهنا شطرحبهـــا .. وننفذ فيه الصبروالجهد والعمـــــــرا
والحس القومى هوالذى دفع الشاعرأحمد شوقى إلى أنْ يكتب فى أكثرمن قصيدة عن أثر الحضارة المصرية. من ذلك على سبيل المثال قصيدته بعنوان (كبار الحوادث فى وادى النيل) التى ألقاها فى المؤتمرالشرقى الدولى المنعقد فى مدينة جنيف فى سبتمبر 1894 وكان مندوبًا للحكومة المصرية فيه، حيث قال فى هذه القصيدة:
أجفل الجن عن عزائم فرعون .. ودانتْ لبأسها الآنـــــــاء
شاد مالم يشد زمان ولا أنشــأ .. عصرولابنى بنــــــــــاء
هيكل تنثرالديانات فيـــــــــه .. فهى والناس والقرون هباء
فاعذروا الحاسدين فيها إذا لاموا .. فصعب على الحسود الثناء
زعموا أنها دعائم شـُـيـــــــدت .. بيد البغى ملؤها ظلمــــــاء
أين كان القضاء والعدل والحكمة .. والرأى والنُهى والذكــــاء
وبنوالشمس من أعزة مصــــــر .. والعلوم التى بها يستضـاء
إنْ يكن غيرما أتوه فخـــــــــــار .. فأنا منك يا فخاربـــــــــراء
من كرمسيس فى الملوك حديثًا .. ولرمسيس الملوك فــــــــــداء
بايعته القلوب فى صلب سيتى .. يوم أنْ شاقها إليه الرجـــــــاء
( سيتى الأول والد رمسيس الثانى )
جلّ سيزوستريس عهدًا وجلتْ .. فى صباه الآيـــــــــــات والآلاء
سجدتْ مصرفى الزمان لإيزيس .. النّدى من لها اليد البيضـــــاء
قيل إيزيس: ربة الكون لــــــــولا .. أنْ توحدت لم تك الأشيــــــاء
وادّعاك اليونان من بعد مــــصــر .. وتلاه فى حبك القدمــــــــــاء
فإذا قيل ما مفاخر مصـــــــــــر .. قيل منها إيزيسها الغـــــــــــراء
( يشير الشاعر أحمد شوقى هنا إلى المعلومة التى أكّدها علماء
المصريات أمثال أدولف إيرمان على سبيل المثال، فى كتابه
(ديانة مصرالقديمة) أنّ الإلهة المصرية إيزيس كانت هــى
الإلهة المعبودة فى العالم القديم كله وليس فى اليونان فقط ..
وهوما يدل على أنّ الشاعرأحمد شوقى كان على إطلاع
بما يُكتب عن الحضارة المصرية)
وفى قصيدته بعنوان (أبو الهول) كتب:
أبا الهول، لولم تكن آيـــــــــة .. لكان وفاؤك إحدى العبــــــــر
(ولأن القصيدة طويلة أرجومن القارىء الرجوع إليها فى ديوان أحمد شوقى) وإنما أكتفى بما كتبه فى آخر القصيدة، إذْ كتب : “ثم إنشق صدرأبى الهول عن فتى وفتاة أمامه وأنشدا هذا النشيد:
اليوم نسود بوادينـــــــــــا .. ونعيد محاسن ماضينــــــــــــا
ويشيد العزبأيدينـــــــــــا .. وطن نفديه ويفدينـــــــــــــــــا
وفى قصيدته بعنوان (النيل) كتب يخاطبه:
أصل الحضارة فى صعيدك ثابت .. ونباتها حسن عليك مُخلّق
ملأت ديارك حكمة، مأثورهــــا .. فى الصخروالبردى الكريم مُنبّق
وفى قصيدته (توت عنخ آمون وحضارة عصره) كتب:
يا ابن الثواقب من ( رع ) .. وابن الزواهرمن (آمون)
نسب عريق فى الضحـــى .. بذّ القبائل والبطــــــــــون
حبُ الخلود بنى لكــــــــــم .. خُلقًا به تتفــــــــــــــردون
لم يأخذ المتقدمـــــــــــــون .. به ولا المتأخــــــــــــرون
حتى تسابقتم إلـــــــــــــــى .. الإحسان فيما تعملــــــــون
هذا القيام، فقل لنا اليــــوم .. الأخيرمتى يكـــــــــــون؟
البعث غايةُ زائــــــــــــــل .. فان وأنتم خالــــــــــــدون
وفى قصيدته (تمثال نهضة مصر) كتب:
ترى مصركعبة أشعاره .. وكل معلقة قالهـــــــــــــــــــا
ويوم ظليل الضحى من بشنس .. أفاء على مصرآمالهـــا
مشتْ مصرفيه تعيد العصور .. ويغمرذكرالصبا بالــــها
وأقبل (رمسيس) جم الجلال .. سنى المواكب مختالهـــــا
وأومأ إلى ظلمات القــــــرون .. فشق عن الفن أسدالهـــا
فمن يبلغ (الكرنك) الأقصرى .. وينبىء (طيبة) أطلالهـا
ويسمع ثم بوادى الملــــــــوك .. ملوك الدياروأقيالهـــــــا
وكل مخلدة فى الدمـــــــــــــى .. هنالك لم نحص أحولهـا
وما الفن إلا الصريح الجميـــل .. إذا خالط النفس أوحى لها
وما هوإلاّ جمال العقــــــــــول .. إذا هى أولته إجمالهـــــــا
وفى قصيدته (معبد فيله– أنس الوجود) كتب:
أيها المنتحى ب (أسون) دارًا .. كالثريا تريد أنْ تنقضــــــا
إخلع النعل واخفض الطرف واخشع .. لاتحاول من آية الدهرغضــا
قف بتلك (القصور) فى اليم غرقى .. ممسكًا بعضها من الذعربعضـــا
كعذارى أخفين فى الماء بضــــــــًــا .. سابحات به وأبدين بضــــــــــــا
مشرفات على الزوال وكانــــــــــت .. مشرفات على الكواكب نهضـــــا
شاب من حولها الزمان وشابــــــتْ .. وشباب الفنون مازال غضــــــــا
ربّ ” نقش” كأنما نفض الصانــع .. منه اليدين بالأمس نفضــــــــــــــا
000
فى ظل هذا الإحساس بالقومية كان طبيعيًا أنْ يستقيل رئيس الجامعة تضامنًا مع مرؤوسه. إذْ فى يوم 9 مارس 1932 استقال أحمد لطفى السيد من رئاسة جامعة فؤاد (القاهرة حاليًا) إحتجاجًا على نقل طه حسين الذى كان يشغل منصب عميد كلية الآداب إلى وزارة المعارف. وبعد أنْ تغيّرت الوزارة (بعد عام ونصف) عرضت الوزارة الجديدة على لطفى السيد أنْ يعود رئيسًا للجامعة مرة أخرى. اشترط لطفى السيد على القصرحتى يتراجع عن استقالته ويعود إلى الجامعة، تغييرالقانون الذى يحكم أداء الجامعة. وكان أهم بند فى التغييرالجديد للقانون، هو ضرورة استقلال الجامعة استقلالا تامًا، فلا تتدخل الحكومة فى أعمالها، سواء من حيث المناهج أواختيارالعمداء والمدرسين وعلاقة الجامعة بالطلبة إلخ. ووافقت الحكومة ووافق البرلمان. وصدرالقانون الجديد للجامعة وفق الشروط التى وضعها لطفى السيد. وبالتالى وافق على العودة إلى الجامعة من جديد. وذكرالمؤرخون أنه عاد محمولا على أعناق الطلبة. هذا مع مراعاة أنّ عداء القصروالإخوان المسلمين لطه حسين، كان عداءً صريحًا ومستحكمًا، بسبب كتابه (فى الشعرالجاهلى) وبسبب موقفه من التعليم الذى يرى أنه يجب أن يكون علمانيًا ويحرص على أنْ يمتلك الطلبة عقلية ناقدة، أى أنّ التعليم لايجب أنْ يكون وفق نظام (التلقين) كما أنّ طه حسين امتلك شجاعة رفض طلب القصرمرتين: الأولى عندما رفض منح الدكتوراة الفخرية فى الأدب لبعض الشخصيات العربية ولبعض الوزراء المصريين وأشرّعلى طلب القصرأنه لايستطيع منح الدكتوراة الفخرية فى الأدب لأشخاص ليست لهم أية علاقة بالأدب. أما الموقف الثانى فهو رفض طه حسين رئاسة جريدة تكون معبرة عن القصر. رغم كل ذلك وعندما عزله القصر، استقال رئيس الجامعة تضامنًا مع مرؤوسه.
وأحمد لطفى السيد له العديد من المواقف التى تؤكد تطابق أفعاله مع آرائه. ومن هذه المواقف ذلك الموقف الدال الذى ذكره أ. كامل زهيرى الذى كتب “حكى لى د. سليمان حزين أنه حين حصل على الدكتوراة من كامبرج، عاد إلى مصرليلتقى بمديرالجامعة. وكان أيامها المفكرالكبيرأحمد لطفى السيد. وقال الطالب الشاب لمديرالجامعة سعيدًا: إنه فازأيضًا بجائزة قدرها ألف جنيه استرلينى. وردّ عليه لطفى السيد: ولك من جامعتك ألف جنيه مصرى. وقال سليمان حزين: إنّ الجنيه المصرى أيامها كان يزيد ثلاثة قروش على الجنيه الاسترلينى” فى ظل هذا المناخ الذى برزفيه الإحساس بالقومية المصرية، لم تكن مصادفة أنْ يكتب الشاعرحافظ إبراهيم:
وقف الخلق ينظرون جميعًا .. كيف أبنى قواعد المجد وحدى
وبناة الأهرام فى سالف الدهر .. كفونى الكلام عند التحــــدى
أنا تاج العلاء فى مفرق الشرق .. ودراته فرائد عقــــــــــــــدى
إنّ مجدى فى الأوليات عريق .. من له من أولياتى ومجــــدى
وفى ظل هذا المناخ يدعو إسماعيل أدهم المصريين إلى ترك اللغة العربية لأنّ لهم لغة قومية خاصة بهم. نظموها ووضعوا لها القواعد. وذكرأنه منذ حطّ رحاله فى مصرلدراسة حياتها الاجتماعية والأدبية، وقف على ثروة جديدة هى اللغة المصرية. وأنّ القول بأنها عامية العربية قول خطأ. وقال يخاطب المصريين ((فهذه هى لغتكم وهى أولى بعنايتكم من إحياء لغة بدو، لايربطكم بهم صلة ولارابط))
لقد كانت ثورة أجدانا المصريين فى برمهات/ مارس 1919 (وما سبقها من تمهيد، خاصة بعد فك رموزاللغة المصرية القديمة) بمثابة المُفجّرالذى أزال الغطاء ونفض غبارالزمن عن جوهرهويتنا الحقيقية كمصريين. ويرى د. حسين فوزى أنّ فجرالقومية المصرية قد أشرق عام 1919. وأنّ “حركة الشعب المصرى فى مارس من ذلك العام وما تلاه، جديرة بعناية المؤرخين. لأنها تميّزت بكل صفات القومية الكاملة. لا أثرفيها للدين ولا للملة. ولازيغ فيها نحو خلافة الباب العالى. أونحوالمحتل. ومع أنها كانت حركة تحريرمن الربقة الأجنبية، فقد حرصتْ على مقومات الحضارة الغربية ولم تنبذها. فالكل مصريون قبل كل شىء. يقاومون الغاصب. ويطلبون لبلادهم الاستقلال السياسى والتحررالاقتصادى والفكرى”
فى ظل هذا الانبعاث القومى، تخلّق التيارالليبرالى وتيارالقومية المصرية، فكانا أشبه بالتوأم بل أعمق من ذلك كانا أشبه بالجديلة فى ضفيرة واحدة. تلك الجديلة التى عبّرعنها فنان الشعب، خالد الذكر(السيد درويش) وهويغنى والشعب يُردّد وراءه:
اللى تجمعهم أوطانهم .. عمرالأديان ما تفرقهم
إنّ الدفاع عن القومية المصرية، هودفاع عن الخصوصية الثقافية. ومع مراعاة أنّ الثقافة القومية، هى مجموع أنساق القيم لأى شعب من الشعوب عبرتاريخه الممتد. وأنساق القيم هذه تشمل النظرة إلى الحياة والموت، وأسلوب دفن الموتى، ونظرة المجتمع إلى المرأة، هل هى إنسان كامل مثلها مثل الرجل، أم أقل منه، ونظرة المجتمع إلى تكوين الأسرة، وهل تتزوج المرأة بعد ترملها أوبعد طلاقها من زوج جديد، أم تفضل عدم الزواج وتنحازإلى التفرغ لرعاية أولادها (كما هى السمة الغالبة لدى المرأة المصرية) كما أنّ أنساق القيم تشمل التراث مجهول المؤلف، مثل النكت (جمع نكتة وهى صحيحة لغويًا) والأمثال الشعبية والمواويل والحواديت. ولماذا يعشق شعب ما ظاهرة الاحتفال بالأولياء والقديسين مثل شعبنا (مسلمين ومسيحيين) بينما شعوب أخرى لاتعرف هذه الظاهرة، بل وتراها (وثنية) ومخالفة للدين، إلى آخرالأمثلة التى توضح وتؤكد أنّ الثقافة القومية، هى المعبرة عن (الشخصية القومية) لأى شعب من الشعوب. وتبعًا لذلك فإنّ الحديث عن (القومية المصرية) هوحديث (ثقافى) أى أنه حديث يتجاهل عن عمد أية أغراض سياسية، لأنّ السياسة ترتبط بمراحل متغيرة، فى حين أنّ (الثقافة القومية) لها ثباتها النسبى الذى لايمكن إنكاره. كما أنّ السياسة ترتبط بمصالح آنية وأطماع شخصية، وذلك عكس الثقافة القومية التى هى تعبيرعن الروح الجمعى لشعب من الشعوب.
وعن أهمية الخصوصية الثقافية لأى شعب من الشعوب، كتب (ألفا أوما كونارى) رئيس جمهورية مالى عام 1993 : ” … ما دام أنّ هناك حضارة تمارس قهرًا سياسيًا وفكريًا وأخلاقيًا على غيرها من الحضارات، بدعوى أنّ الطبيعة والتاريخ قد إختصاها بمميزات، فما من أمل فى حلول السلام على البشرية . فإنكارالخصائص الثقافية لشعب من الشعوب يٌعد نفيًا لكرامته” أما الأب الروحى للشعب الهندى (المهاتما غاندى) فقد لخّص (بعبقرية فذة) العلاقة التى لايفهما كثيرون، أولايريدون أنْ يتوقفوا أمامها، أى العلاقة بين الانفتاح على كل ثقافات العالم، والحب لكل شعوب العالم، وبين الإعتزازبثقافته القومية فقال ((إننى أرغب فى أنْ تهب على بيتى جميع ثقافات العالم. ولكننى أرفض أنْ تقتلعنى من جذورى إحدى هذه الثقافات))
000
واذا كان التيارالليبرالى وتيارالقومية المصرية، قد تخلــّـقـا فى وقت واحد، فلماذا خفتَ صوتهما (فى وقت واحد أيضًا) بعد يوليو 1952؟ ذلك الخفوت الذى يقترب من الاحتضار. هذا هوالسؤال الذى أتمنى أنْ يطرحه على نفسه كل باحث لايعترف إلاّبالعقل مرجعًا، وبالوطن (مصر) قبلته الأولى.