كلمة “مُعلم” من الألقاب القديمة التى كانت تطلق على طائفة من أصحاب المناصب العليا والمراكز الإجتماعية، ولم يكن أحد يجرؤ على إستخدام هذا اللقب، وهو مشتق من كلمة “العلم” للإشارة أن حامله من المتعلمين أو من الذين يمارسون التعليم، ولكن تطور اللقب مع مرور الزمن وأصبح يطلق على كثيرين من أصحاب الحرف، وأنتهى اللقب إلى إطلاقه الآن على مرتلى الكنائس.
ومن اشهر معلمى الكرازة المرقسية المُعلم إبراهيم الجوهرى والذى كان يتولى منصباً يماثل منصب رئيس الوزراء، وعاصر المُعلم إبراهيم وشقيقه جرجس إبراهيم بك الكبير ومراد بك من المماليك، ولم يكن الحكم حينذاك مستقراً فحدث انقلاب في هيئة الحكام، وحضر إلى مصر “حسن باشا قبطان” من قِبَل الباب العالي فقاتل إبراهيم بك ومراد بك واضطرا إلى الهروب إلى أعالي الصعيد ومعهما إبراهيم الجوهري وبعض الأمراء وكتّابهم، فنهب قبطان باشا قصور البكوات والأمراء والمشايخ واضطهد المسيحيين وأمر بإحصاء كل ممتلكات المُعلم إبراهيم الجوهرى بما أوقفه على الكنائس، وبسبب إختلال الأحوال وعدم ائتمان الناس على أموالهم وأرواحهم، إختفت زوجة المُعلم إبراهيم فى بيت “حسن كتخدا على بك” فقبضوا عليها وأرغموها أن تخبرهم عن ممتلكات زوجها، فدلتهم عليها وأخرجوا منها أوانى ذهب وفضة وأتوا بها إلى حسن باشا الذى قرر بيعها فى مزاد!.
ولما عادت الأحكام إلى الاميرين مراد وإبراهيم بك رجعا من الصعيد، ورجع معهما المُعلم إبراهيم وكان هو الوحيد من كبار الأقباط الذى نجا من إضطهاد حسن وتمكن بحسن سياسته وذكائه من حفظ مركزه.
ولم ينجب إبراهيم الجوهرى سوى ابن أسمه يوسف توفى شاباً وهو يتأهب للزواج وبنت، وقد أوقف أملاكه على الكنائس والأديرة والبر على الفقراء.
وحدث أن مرت بالقاهرة أحدى سيدات القصر السلطانى قادمة من تركيا فى طريقها لإداء مناسك الحج وكلف إبراهيم الجوهرى باستقبالها فى ذهابها وإيابها، فأكرمها وأحسن استقبالها وقبل أن تعود إلى الإستانة سألته أن يطلب لنفسه شيئاً، فأجاب بأنه يرجو أن يتم اصدار تصريح بتشييد كنيسة إلى جوار بيته فى الأزبكية، وعندما عادت السيدة إلى تركيا صدر “فرمان سلطانى” بالتصريح ببناء الكاتدرائية المرقسية بالأزبكية، فكان لهذا الخبر تأثيراَ سعيداً لدى ابراهيم الجوهرى الذى حلم بهذا الحلم طويلا ولكن للأسف لم تسير الأمور كما ينبغى فكتب الجبرتى:… ومات المعلم إبراهيم الجوهرى رئيس كتبة الأقباط بمصر، وأدرك فى هذه الدول من العظمة ونفاذ الكلمة والشهرة ما لم يسبق لمثله، وكان أول ظهوره فى أيام المُعلم رزق كاتب على بك الكبير، ولما مات المعلم رزق ترأس إبراهيم بك جميع الأمور فكان كل شئ تحت يده وإشاراته، وكان من دهاقين الساسة، لا يغرب عن ذهنه شئ من أقل الأمور.. وفى أيامه عمرت الكنائس وأوقف عليها الأوقاف والأطيان، ورتب لها المرتبات والأرزاق، وحزن إبراهيم بك لوفاته وخرج فى ذلك اليوم حيث شاهد جنازاته، وهم ذاهبون به إلى المقبرة وتأسف عليه تأسفاً شديداً.
ولم يكد الحلم الذى حلم به ابراهيم الجوهرى وهو بناء الكنيسة المرقسية بالازبكية ان يكتمل فرحل تاركا حلمه فى قلب أخوه جرجس أفندى والذى بدء فى وضع حجر الأساس فى الموقع الحالى ويُقال أن أصل الموقع الذى بنيت فيه الكنيسة كان ملكاً للأمير يعقوب والمعلم ملطى اللذان كانا موظفين فى وظائف مهمة بمصر وتنازلا عنه للكنيسة.
وفى يوم الخميس 22 من ابريل عام 1589 م فى الساعة الحادية عشرة أحتفل بوضع حجر الأساس فى حفل بهيح حضره الوف الأقباط والأعيان أنذاك.
ثم بدأت مسيرة العمل منذ عهد البابا كيرلس الرابع لإنهاء واجهات الكنيسة وأعمدتها فسعى لجلب الأعمدة الرخامية اللازمة من أوربا لعدم توفرها بمصر، إلا أن آماله لم تتحقق حتى إنتقل، وخلفه البابا ديمتريوس والذى إستطاع شراء الأعمدة الرخام من الإسكندرية.
ومن أشهر الرعاة بالكنيسة المرقسية الإيغومانوس فيلوثاؤس إبراهيم الذى ولد بطنطا سنة 1837م ودرس العلوم فى المدارس وأتقن اللغات القبطية والعربية والإيطالية بعدها عُين قسيساً لطنطا سنة 1862م وكان مجتهداً فى دراسة كتب اللاهوت حتى برع فى الوعظ فإنتشر أسمه فى كل جهات القطر، وبعدما رفع إلى رتبة أيغومانوس سنة 1865م وطلبه البابا ديمتريوس الثانى ليرافقه فى رحلته بالوجه القبلى سنة 1867 فأظهر مقدرة فائقة فى الخطابة حتى رد كثيرين للكنيسة
وفى أكتوبر سنة 1874 أنتخبه المجلس الملى راعياً وواعظاً للكنيسة المرقسية بالأزبكية، وظل يخدم بها حتى أنتقل فى 10 مارس سنة 1904، وله عدة مؤلفات منها “الحجة الأرثوذكسية ضد اللهجة الرومانية”، وتنوير المبتدئين فى تعليم الدين، “خطب ومواعظ”، “الخلاصة القانونية فى الأحوال الشخصية”.
الكاتدرائية… روح وحياة:
وكان يطلق على المقر البابوى أسم – القلاية البطريركية- والقلاية معناها صومعة، وهى مكان سكنى الراهب، وظل الأسم لصيقاً بموضع سكنى البطريرك بإعتباره من الرهبان
وكان المبنى القديم يتألف من قسمين متصلين، الأول وهو المطل على الكنيسة المرقسية وكان مخصصاً لسكنى البابا بالطابق فوق الأرضى، ويتكون من غرفة عند المدخل، ثم قاعة للإستقبال يتلوها حجرة داخلية للنوم، وخصص الجانب الآخر من الخلف للمجلس الملى العام، وضم الطابق الأرضى إلى اليسار صالة الإجتماعات، وإلى اليمين غرفة الأرشيف والتى احتوت وثائقاً لملكية الأوقاف ومحاضر جلسات المجلس منذ إنشائه سنة 1883، وكان يعلو الطابق الأرضى غرفة مخصصة لوكيل المجلس وأخرى لمدير الديوان البطريركى، وغيرها لموظفى الديوان.
وكان الطابق الأرضى للجزء الخاص بسكنى البابا وكان يضم قاعة للإستقبال إلى اليسار، تقابلها إلى اليمين غرفة مخصصة لسكرتير البابا… وهذا المبنى حاليا مشهور بين ابناء الكنيسة باسم “القصر”.
وفى عهد البطريرك مرقس الثامن أراد تحويل مقر سكنه من القلاية البطريركية بحارة الروم إلى الأزبكية، ولذا سميت بالمرقسية ودشنت بأسم القديس مرقس الرسول المبشر بالإنجيل فى مصر لوجود الكرسى البطريركى بها
وشهد المقر البابوى على مدى تاريخه زواراً من الأعلام من الأباطرة والملوك ورؤساء الدول بينهم الأمبراطور هيلاسلاسى أمبراطور أثيوبيا، والأسقف مكاريوس رئس جمهورية قبرص، ونكروما رئس جمهورية غانا.
كما زار المقر البابوى العديد من رؤساء الوزراء المصريين منهم بطرس غالى وحسن رشدى ومحمد سعيد، ويوسف وهبه… وسعد زغلول ومصطفى النحاس، وأحمد ماهر، ونجيب الهلالى، وعلى ماهر ومحمد نجيب، وجمال عبد الناصر… وغيرهم
الكنيسة المرقسية … الوطنية:
عقد اجتماع فى 13 ديسمبر 1919 فى بالكاتدرائية المرقسية بكلوت بك بحضور 3000 امرأة وعبد الرحمن فهمي الذى حفظت لنا مذكراته وقائع هذا الإجتماع حيث إحتجت السيدات المصريات فى هذا الإجتماع على نفي الزعماء، وعلى وزارة وهبه باشا ومن بين أسماء الموقعات على هذه القرار: “هدى شعراوي ، إستر فهمي باشا ، حرم محمد بك على المحامي وبرلنتى ويصا واصف.
وإنتخبت فيه “هدى شعراوي رئيسة، وفكرية حسن وإحسان القوصي وإستر فهمي ويصا سكرتاريه اللجنة، وبدأت تلك اللجنة أعمالها بإرسال الإحتجاجات وكتابة المقالات في الصحف اليومية، حتى اندلعت ثورة 1919 فى عهد البابا كيرلس الخامس الذى بارك الثورة وكان على اتصال دائم بسعد زغلول