مصر بعبقريتها نسجت احتفالياتها القديمة داخل نسيج العقائد السماوية
أسبوع الآلام يقع فى الفترة الزمنية المعروفة عند قدماء المصريين بفصل الحصاد
الالحان الكنسية تراث اعتمد على النغمات والالحان الفرعونية
استطاعت المسيحية عند دخولها مصر تحويل العديد من الممارسات الخاصة بالمصريين القدماء الى ممارسات تتفق مع الديانة الجديدة ومن هنا فالثقافة الشعبية القبطية هى ثقافة شعبية مصرية وهى لا تعنى ثقافة دينية أو ثقافة مسيحية بل هى ثقافة شعبية لكل المصريين، جزء مهم من تاريخهم وحياتهم اليومية، فكل منا يحمل فى تكوين ثقافته حضارات متراكمة من عصور سالفة وحاضرة من العصر الفرعونى والقبطى والإسلامى أثرت فى تفكيرنا ووعينا.
ويربط كثير من المؤرخين العصر القبطى مع نشأة اللغة القبطية ، عندئذ ستكون نقطة البداية للحقبة القبطية فى موقع ما فى القرن الأول أو الثانى بعد الميلاد، والبعض الآخر يؤكد على نقطة البداية مع دخول المسيحية، وبالتالى أمكن ربطه مع بداية التقويم الميلادى من منطلق أن العصر القبطى هو تعبير عن الحقبة المسيحية التى دخلت مصر فى النصف الثانى من القرن الأول الميلادى.وقد يراه كثرة من المؤرخين أنه يبدأ عام 284 ميلادية وهى السنة التى بدأ فيها أقباط مصر تقويمهم القبطى والمسمى تقويم الشهداء لارتباطه بأحداث الاستشهاد فى عهد دقلديانوس.
الثقافة الشعبية القبطية
ويؤكد الباحث “أشرف أيوب معوض ” فى كتابه الذى يقع تحت عنوان “حول الثقافة الشعبية القبطية على أن تلك الحقبة فى مصر قد أخذت معلما وشكلاً حضاريا جديدا، فاللغة قد تغيرت وصارت بالفعل اللغة القبطية والديانة قد تغيرت وصارت الديانة المسيحية وكان لكل ذلك انعكاساته على كافة ألوان الحياة الفكرية والثقافية والحضارية والفنية وأصبحت مصر موطنا لحضارة من نوع جديد.والثقافة الشعبية القبطية لا تبحث فى الطقوس الدينية نفسها أو الشعائر الدينية بل بالطقس الشعبى أو الاحتفال الشعبى أو المعارف الشعبية المصاحبة للشعائر الدينية المسيحية وبالتالى يتدخل الطابع المصرى الشعبى فى طريقة التعبير بهذه المناسبات.
موضحا أن الفولكلور القبطي هو أصل الفولكلور المصري، سواء في الفنون القولية من غناء، وأمثال، وتعاويذ، وحكايات، وألغاز، أو البصرية كالرسم، والنقش، والوشم، والنحت، والزخرفة، وتشكيل الأواني الفخارية، والحرف اليدوية الفنية، وما إلى ذلك ، كما ان هناك مجموعة من ظواهر الفولكلور القبطى الخاص بالموالد المسيحية الحافلة بالمعلومات التاريخية، والعقائدية، والإجتماعية منها دراما “يهوذا”، تلك الدراما الشعبية التى حرص القبط المسيحيون على إقامتها فى يوم معلوم من كل عام فى ساحة أمام الكنائس، أو فى داخلها، حيث يقوم المحتفلون بتمثيل مسرحية يحفظونها جميعًا، عن خيانة “يهوذا” للسيد المسيح، ويختارون شخصًا لتمثيل دور “يهوذا”، وهذا يُعد موقفًا صعبًا على من يقبل القيام بهذا الدور؛ مؤكدا أن جميع الممثلين لابد أنهم سيندمجون وهم يمثلون، وينهالون على الممثل الذى يقوم بدور “يهوذا” الخائن باللعن والضرب.
كما أن الإحتفالات التى تتم داخل الكنيسة، هى إحتفالات دينية يشارك فيها الشعب بصورة محدودة، وعندما تخرج هذه الإحتفالات من داخل الكنيسة إلى خارجها تكتسب شعبية أكبر وتسمى حينئذ “احتفالات شعبية قبطية” منها ” أحد السعف ” وهو إحتفال بذكرى دخول السيد المسيح أورشليم وهو إحتفال كنسى تقام فيه الصلوات داخل الكنيسة، أما الإحتفال الشعبى بقطع سعف النخيل والاحتفال به وعمل أشكال القلب والصليب المجدول الذى له مكانة كبيرة لدى الاقباط حيث يستخدم فى اقامة الصلوات داخل الكنيسة فى هذا اليوم بدلا من الصليب المعتاد ، كما يوضع أو يعلق على أبواب الكنائس والمنازل .
أيوب – اله الحصاد – الرعرع
ويعد أحد السعف هو بداية الاسبوع الاخير من الصوم الكبير والذى يسمى أسبوع الآلام ، هذا ما يوضحه الباحث عصام ستاتى فى كتابه ” مقدمة فى الفولكلور القبطى ” مشيرا الى أن الالحان الكنسية المفرحة تتبدل الى الالحان الحزينة حتى نصل الى ليلة أحد القيامة لتبتهج الكنيسة وتكتسى بالفرح وتنشد الالحان السعيدة ، وتعد الالحان الكنسية فى مجملها تراثا اعتمد على النغمات والالحان الفرعونية التى كانت تستخدم فى المعابد قديما وتختلف باختلاف المناسبة ، أما أربعاء أيوب فهو رابع يوم فى اسبوع الالام وفيه تتذكر الكنيسة تشاور التلميذ الخائن يهوذا على السيد المسيح ، وقد نسب هذا اليوم الى ايوب النبى لانه يمثل من وجهة النظر الدينية السيد المسيح فى الامه وتجاربه التى انتهت نهاية مفرحة ،أما من وجهة النظر الشعبية فهو يشير الى ان ايوب اغتسل يوم الاربعاء بنبات الرعرع فشفى من امراضه ومن هنا اعتادت المجتمعات الريفية الاغتسال بهذا النبات طلبا للشفاء ، كما يحتفل الاقباط فى هذا اليوم ببشائر زراعات القمح ويشكلون منها عروسة القمح كقربان للالهة وتعويذة من العين الحاسدة وترجع هذه العادة الى قدماء المصريين حيث كانوا يطوفون بحزمة من سنابل القمح احتفالا باله الحصاد ، ومن هنا حل القمح الاخضر ضيفا على موائد الاقباط فى اربعاء ايوب حيث يأكلون الفريك ابتهاجا بموسوم الحصاد .
خميس العهد – العشاء الأخير -العدس
أما خميس العهد فتحتفل به الكنيسة لتتذكر العشاء الاخير للسيد المسيح مع تلاميذه قبل تسليم يهوذا له لليهود لكى يصلبوه ، وحسب التقليد الشعبى يأكل الاقباط فى هذا اليوم ” فتة العدس ” وهو من الاطعمة المحببة لدى قدماء المصريين ويذكر هيرودوت انه كان يستعمل طعاما لبناة الاهرام ، وفى هذا اليوم الثقافة الشعبية حريصة على عدم المصافحة لعدم تذكار ما فعله يهوذا الخائن الذى سلم سيده لليهود ، كما اعتاد العديد من الاقباط زيارة المقابر فى هذا اليوم وتوزيع القرص كتكفير عن خطايا الميت ومصدر هذا الطقس المصريون القدماء الذين اعتادوا على توزيع الخبز والمحاصيل الزراعية على الفقراء فى أعياد الالهة ويظهر هذا جليا فى صور ورسوم زيارات المقابر عند القدماء وهم حاملين معهم سلال الرحمة كتعبير عن احياء ذكرى موتاهم ورمز لعقيدة الخلود التى امن بها المصرى القديم منذ فجر التاريخ .
الجمعة العظيمة – الخل – الفول النابت
وتتذكر الكنيسة فى يوم الجمعة العظيمة ما فعله اليهود بالسيد المسيح عندما أخذوه الى الحاكم الرومانى وطلبوا منه ان يصلبه ويفرج عن برباس اللص ، وتكتاد تقتصر الاحتفالات الشعبية فى هذا اليوم على اعداد مائدة الطعام بمكوناتها الرئيسة من السلطة الخضراء والفول النابت والذى يرجح فى الثقافة الشعبية انه يأكل فى هذا اليوم لسرعة طهيه وهضمه كوجبة خفيفة بعد يوم صيام طويل ، وعرف المصريون القدماء الفول وتفننوا فى عمله بعدة طرق لازالت موجوده حتى اليوم فى حياتنا اليومية ، أما الخل فهو عنصر اساسى فى طعام هذا اليوم تذكارا للسيد المسيح الذى روى الجنود عطشه بإسفنجه مبللة بالخل .
ويقام أسبوع الآلام فى الفترة التى كانت تعرف عند قدماء المصريين بفصل الحصاد ” شمو ” والتى حرفت الى شم النسيم ، وفى هذا الفصل تنضج المحاصيل الزراعية وكان لها مجموعة من الاعياد تقدم فيها بواكير المحاصيل كهدايا وتكون رمزا للطعام ، وقد ظلت هذه العادات تمارس رغم تغير الدين واللغة وبعد المسافة الزمنية
القيامة .. عيد الأعياد
ويأتى عيد القيامة الذى يعد عيد الأعياد ، وهو ليس له تاريخ معين ولكن ياتى يوم الاحد الذى يلى سبت النور ، والاحتفال الكنسى يكون ليلة الاحد بالكنيسة التى خلعت ثوب الحزن وارتدت رداء الفرح ، وفى هذا اليوم يتم تمثيل تمثيلية القيامة للتذكير بما قام به السيد المسيح من تضحيات وما تحمله من آلام ، وتصور انتصار الحق والخير على الشر والظلم ، ويرتل الشمامسة “ياكل الصفوف السمائيين،… الخ ” ويطوفون بأيقونة الصلبوت حول المذبح ثلاث مرات ثم يطوفون صحن الكنيسة ثلاث مرات فى اشارة الى قيامة السيد المسيح وتستمر هذه الدورة لمدة أربعين يوما من القيامة الى الصعود واثنائها تزغرد النساء ويصفق الرجال اثناء ترديد الالحان المفرحة وهذا تقليد غير كنسى ولكنه تعبير شعبى بالفرح
وهكذا استطاعت مصر بعبقريتها الفريدة أن تنسج احتفاليتها القديمة داخل نسيج العقائد السماوية ، بل أصبحت هذه العادات جزءا من النسيج العقائدى نفسه مكونة المعتقد الشعبى الذى يرسم ملامح الشخصية المصرية .