من خذل أباه فهو بمنزلة المجدف، ومن غاظ أمه فهو ملعون من الرب (يشوع بن سيراخ 3 : 18)
المسنون في مصر هم من بلغوا الستين وما فوقها ، ولكن هذا المصطلح يختلف مفهومه بحسب البيئة والمكان ، فمثلاً في المناطق الباردة جداً يمتد حياة الإنسان إلى 160 سنة ، وفي المناطق المعتدلة كما هو الحال في حوض البحر الأبيض المتوسط يمتد العمر ليصل إلى نحو المائة سنة ، وهذا يختلف كثيراً عنه في البلاد الواقعة عند خط الاستواء حيث تنتهي دورة الحياة في حوالي الخامسة والأربعين . إذن فللمناخ أثره من حيث البرودة والحرارة وأثره على حياة الإنسان في طولها وقصرها .
فالمعروف أن المسنون في الكتاب المقدس لهم اعتبارهم ووضعهم حيث أنهم لهم خبراتهم وعلمهم الكثير ، ورسخت شخصيتهم بعد أن هدأت انفعالاتهم وحماستهم ، فلم تعد توصف شخصيتهم بالتردد كما هو الحال في الشباب .
وساد اعتقاد عام في كافة المجتمعات السليمة ، هو أن يكون الشيوخ دائماً في الصدارة . وقد حدث في بعض العهود أن انكسرت هذه القاعدة فظهر شباب أقوياء ، برزوا في مجتمعاتهم وقادوا شعوبهم قيادة قوية وغيروا وجه التاريخ ، ومع ذلك فالقيادة في مجرى التاريخ كانت ولا تزال للشيوخ كقاعدة عامة .
أولاً : ولعلنا نجد في الكتاب المقدس الدليل والبرهان – على أن الله كان دائماً يسند إلي الشيوخ المهام القيادية فمثلاً :
(1) عندما عهد الله إلي النبي موسي أن يقود بني إسرائيل في خروجهم من أرض مصر إلى الأرض التي أعطاهم الله أن يدخلوها وأن يرثوها ، فكان الله يشدد أن يكون مع موسي شيوخ بني إسرائيل حيث يذكر أن الله قال لموسي : ” أمضي وأجمع شيوخ إسرائيل ، وقل لهم : الرب إله أبائكم تجلي لي ، إلها إبراهيم وإسحق ويعقوب ، وقال : أني قد افتقدتكم وما صُنع بكم في مصر ، فقلت إني أخرجكم من مذلة مصر إلى أرض الكنعانين .. إلى أرض تدر لبناً وعسلاً . فإذا سمعوا لقولك تدخل أنت وشيوخ بني إسرائيل على مصر … “
(2) كذلك أيضاً عندما أراد الله أن يعلن لموسي وبني إسرائيل شريعته على جبل سيناء أمره أن يعلن الشريعة أولاً لشيوخ بني إسرائيل .
(3) أيضاً عندما أراد الله أن لا ينفرد موسي بقيادة شعب بني إسرائيل ويحمل أحماله الثقيلة – أمره أن يجمع إليه شيوخاً من بني إسرائيل ( سبعين رجلاً من شيوخ إسرائيل ) – ويأخذهم إلي خيمة الاجتماع فيقفوا هناك معك . فأنزل أنا وأتكلم معك – فآخذ من الروح الذي عليك وأحله عليهم ، فيحملون معك أثقال الشعب ، ولا تحمل أنت وحدك ” .
(4) وفي مواقف أخرى كثيرة في الكتاب المقدس نرى أن الشيوخ كانوا دائماً في الصدارة ، فمنها ما حدث من تهديد لشعب بني إسرائيل من قبل سنحاريب ملك أشور ، وكان ملك إسرائيل وقتها هو حزقيا ، وكان رجلاً تقياً صالحاً ، بعث إلي النبي اشعياء ، رجالاً من الشيوخ يطلب إليه أن يرفع صلاة من أجل أورشليم وشعب بني إسرائيل .
(5) ثم عند اختيار ملك ليملك علي بني إسرائيل ، كان النبي ومعه الشيوخ هم الذين يتصدرون عملية إقامة الملك واختياره . كما حدث أيضاً عندما أراد الملك سليمان أن يصعد تابوت عهد الرب إلي بيت الرب بعد أن بني الهيكل الذي نُسب إلي سليمان .
(6) ويذكر أيضاً أنه عندما ترك الملك رحبعام الملك ابن الملك سليمان أنه بسبب حماقته ترك مشورة الشيوخ وخضع لمشورة الشباب ، فأنقسم الشعب في عهده حينما أنفصل عشرة أسباط من بني إسرائيل من مملكة يهوذا وأسسوا لهم مملكة أخرى اتخذوا لها اسم ( مملكة إسرائيل ) ولم يبقي مع رحبعام إلا سبط يهوذا وسبط اللاويين . وفي هذا يقول الكتاب المقدس : ( ما أجمل القضاء للشيب ، وحُسن المشورة للشيوخ ، ما أجمل الحكمة للشيوخ والرأي والمشورة لأرباب المجد ، كثرة الخبرة إكليل الشيوخ ، ومخافة الله فخرهم . ( يشوع بن سيراخ 25 : 6 – 8 ) .
ثانياً : وجاء الوقت لنتكلم عن حقوق الشيوخ والمسنين ، وما هو واجبنا نحوهم :
(1) إذا نظرنا إلى أن المسنين في سن الشيخوخة يصيروا أقل نشاطاً بسبب ما ينتابهم من أمراض ، فإن آخرين كثيرون يمكنهم أن يواصلوا العمل والنشاط والإنتاج إلى السبعين أو إلى الثمانين وأحياناً إلى التسعين ، فأن حدث ضعف في نشاطهم الجسماني لكن نشاطهم الذهني لا يصيبه الوهن ، بل أن بعض المسنين خصوصاً أساتذة الجامعات والمدارس وأكثر المؤلفين والكتاب وأصحاب الفكر يصبحون أكثر إنتاجاً وأقدر على التأليف والكتابة والإبداع الفكري ، فلماذا يحرم المجتمع البشري من أمثال هؤلاء الشيوخ والمسنين ؟!
فقد حدث أن ارتفع سن التقاعد لبعض الشيوخ والمسنين القادرين على العمل إلي ما فوق الستين ، فوصل في بعض البلاد إلي سن الخامسة والستين وبعضها الآخر إلى سن السبعين ، خصوصاً بالنسبة للفئات التى لا غني عنها للمجتمع عن خبرة الشيوخ فيها . حيث لا يعطلهم تقدمهم في السن عن العمل والإبداع الفكري ، ولاسيما في ميدان التأليف وتقديم المشورة في كل الميادين العلمية والفنية والاجتماعية والدينية .
(2) ومع ذلك ، فالشيوخ والمسنون كلما تقدموا في السن أمسوا عرضه للأمراض وللضعف ، ولقلة النشاط والحركة ، فالبعض منهم يمسي عاجزاً كلياً أو جزئياً عن العمل وبالتالي عن كسب قوته ، ربما إذا لم يكن له أولاد أو حفده للإنفاق عليه والاهتمام به ، فأنه يتضور جوعاً ، ولذلك قد يضطر إلي مد يده للقيام بأوده ، هذا فضلاً عما يدركه من ألم نفسي بغيض فيقع صريعاً للإحباط النفسي عندما يجد نفسه وقد أمسي عاله على المجتمع ربما بعدها يشتهي الموت لنفسه ، فإذا لم يكن فيه قدر من الإيمان ربما يعتدي علي نفسه ويقتل ذاته بالانتحار السريع أو البطيء .
(3) من هنا أوجب علينا الكتاب المقدس أن نعني بالشيوخ والمسنين ولا نهملهم ، لذلك جاء في الوصية الخامسة من الوصايا العشر ” أكرم أباك وأمك لكي تطول أيامـك على الأرض التي يعطيك الرب إلهك ” .
ثالثاً : وهنا ما هو المقصود بإكرام الوالدين ؟
إكرام الوالدين ليس مقصوراً على :
1 – الأدب الذي يلتزم به الإنسان نحو أبيه وأمه في الكلام والتصرف وإنما الاهتمام بهما ورعايتهما في ضعفهما وشيخوختهما وعجزهما ومرضهما والإنفاق على علاجهما .
2 – احترام مشاعرهما والسهر على راحتيهما وتدبير إعاشتهما وإعالتهما .
3 – يقول الكتاب المقدس : ” إذا كانت أرملة لها بنون أو حفده ، فيتعلموا أولاً أن يوقروا أهل بيتهم ويوفوا والديهم المكافأة لأن هذا صالح ومقبول أمام الله ” ( 1 تي 5 : 4 ) .
4 – ويقول الكتاب المقدس أيضاً : ” وإذا كان أحد لا يقتني بخاصته ولاسيما أهل بيته ، فقد أنكر الإيمان ، وهو شرّ من غير المؤمن ” ( تي 5 : 8 )
5 – ويوصي الرسول بولس القديس تيموثاوس ، في معاملة الشيوخ من الرجال والعجائز من النساء ” لا تزجر شيخاً بل عظه كأنه أب لك .. والعجائز كأنهن أمهات ” ( 1 تي 5 : 1 – 2 ) .
6 – كما يقول الرب الإله في ( سفر اللاويين 19 : 32 ) – ( قم قدام الأشيب وكرم وجه الشيخ .. وأتق إلهك أنا الرب ) .
أما الذين لا يترفقون بالشيوخ فيقول الكتاب المقدس لهم :
1 – قال الرب عن أهل بابل في ( سفر أشعياء 47 : 6 – 11 ) : قد سخطت علي شعبي وابتذلت ميراثي ، ودفعتهم إلي يدك فلم تصنعي إليهم رحمة بل ثقلت على الشيوخ نيرك جداً .. فسيأتي عليك شر لا تعلمين بفجره ، وتدهمك داهية لا تستطيعين التكفير عنها ، ويأتي عليك بغته عطب لا تعرفين بها . وفي هذا يظهر غضب الله على من يحتقرون الشيوخ ولا يترفقون بهم فإن العقاب الإلهي ينتظرهم .
2 – كما يوصي الكتاب المقدس ، باحترام الشيوخ والمسنين وعدم أهانتهم بسبب ضعفهم وعجزهم كما جاء في يشوع بن سيراخ 7 : 8 ( لا تهن أحداً في شيخوخته ، فإن الذين يشيخون هما منا ) .
3 – كما جاء في سفر الأمثال ( 30 : 17 ) ” اَلْعَيْنُ الْمُسْتَهْزِئَةُ بِأَبِيهَا، وَالْمُحْتَقِرَةُ إِطَاعَةَ أُمِّهَا، تُقَوِّرُهَا غُرْبَانُ الْوَادِي، وَتَأْكُلُهَا فِرَاخُ النَّسْرِ ” .
4 – وجاء في سفر الأمثال أيضاً ( 23 : 22 – 25 ) ” ِسْمَعْ لأَبِيكَ الَّذِي وَلَدَكَ، وَلاَ تَحْتَقِرْ أُمَّكَ إِذَا شَاخَتْ … يَفْرَحُ أَبُوكَ وَأُمُّكَ، وَتَبْتَهِجُ الَّتِي وَلَدَتْكَ “ .
5 – كما يقول يشوع ابن سيراخ ( 3 : 3 – 18 ) ” مَنْ خَذَلَ أَبَاهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُجَدِّفِ ، وَمَنْ غَاظَ أُمَّهُ ، فَهُوَ مَلْعُونٌ مِنَ الرَّبِّ ” .
وأما إذا لم يكن للمسنين أبناء أو حفده ، فإن على المجتمع البشري في الوطن واجباً مقدساً حيال الشيوخ والعجائز ، لذلك نشطت الهيئات الخيرية بالاهتمام بالمسنين في إطار الوصايا الإنجيلية والتعاليم الرسولية وهو من منطلق التكافل الاجتماعي الذى أوصي به المسيح له المجد والذى جعل أساساً للحساب الأخروى ، قال الإنجيل : ” ثُمَّ يَقُولُ الْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي ، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ. لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي . عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيبًا فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُونِي . مَرِيضًا فَزُرْتُمُونِي . مَحْبُوسًا فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ . فَيُجِيبُهُ الأَبْرَارُ حِينَئِذٍ قَائِلِينَ: يَا رَبُّ ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا فَأَطْعَمْنَاكَ ، أَوْ عَطْشَانًا فَسَقَيْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيبًا فَآوَيْنَاكَ ، أَوْ عُرْيَانًا فَكَسَوْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضًا أَوْ مَحْبُوسًا فَأَتَيْنَا إِلَيْكَ ؟ فَيُجِيبُ الْمَلِكُ وَيَقوُل لَهُمْ : الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ : بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ. ( متى 25 : 34 – 40 ) .
ــــــــــــــ
v عن محاضرة للأنبا غريغريوس – أسقف عام الدراسات العليا واللاهوتية والثقافة القبطية والبحث العلمي – ” مقالات في الكتاب المقدس ” . بتصرف
v الإنجيل