ترعرع مولود يسمى (بني آدم) في ملجأ للأيتام ، وكانت المسؤولة عنه إمرأة تسمى (حياة) ، لم يعرف بني آدم أحدا غير حياة ، فمنذ أن ولد وجدها أمامه وكأنها قدره المحتوم ، ويبدو أنه وللأبد لن يتمكن من التعرف على والدته الحقيقية التي تركته لحياة رغم أنها كانت سببا في وجوده ، لهذا السبب ظل يجهل أسباب وجوده.
وطوال عمره ،حتى مماته لم يغب عن ناظري حياة إلا فقط عندما كان يذهب إلى النوم ، حينها فقط كانت تغلق باب غرفته و تتركه حتى تشرق شمس يوم جديد لتستقبله مجددا فور إستيقاظه.
كان معروف عن حياة أنها كالمعلم الروحاني الغامض في أسلوبه ، فكانت متقلبة المزاج ، وقد أرادت لإنسان أن يكون تحت رعايتها وناظريها دائما لذلك فإنها قد رفضت خروجه خارج دار رعايتها لكي يتلقى علاجه وتعليمه ، فتكفلت هي بعلاجه وتعليمه بإبرها المؤلمة ، وأدويتها المرة ، وإمتحاناتها الصعبة.
وكان نادرا ما تعطي حياة شيئا بلا مقابل ، وكان المقابل في الأغلب هو جهد بدني أو نفسي شاق ، لكنها كانت تبرر تصرفها بأن هذا الجهد النفسي والبدني ليس سوى دورة تدريبية في حسن إستخدام ما تعطيه حياة لبني آدم ، وأنها إذا منحته شيئا بلا مقابل فإنه ولنقص خبرته سيتلفه ، ومن هنا فإن أعظم المنح التي تلقاها بني آدم من حياة ، هي تلك التي أتت بعد جهد جهيد.
لكن بني آدم ولعدم صبره فإنه دائما ما كان يتهم حياة بالظلم وبأنها وللأبد لن تتمكن من تعويضه عن حنان أمه الذي فقده..لذلك كان يحاول بكل الطرق أن يهرب من دار رعايتها ، لكنه في نفس الوقت كان يخاف من المجهول الذي سيواجهه بعد مغادرة دارها . حتى أتى ذاك اليوم الذي سمع فيه عن أخبار تؤكد على وجود دار رعاية بعد دار رعاية حياة تمتلكها سيدة تسمى جنات، وأن السعادة التي يعيشها أيتام هذا الدار لا تضاهى ، فأصبحت هذه الدار هي حلمه الشاغل .. يجتهد ليل نهار لكي يدخلها ، متجاهلا لحياة ، بل متجاهلا حتى لنفسه !!!
وبعد العمر الطويل الذي قضاه بني آدم في دار حياة إنتقل إلى دار جنات وهو على دراية بأن حياة لن تقبله مجددا في دارها بعد أن هجرها هكذا .. بهجة غامرة ، فرحة خالدة ، و عطاء بلا إنقطاع .. هذا هو ما وجده بني آدم في بادىء الأمر ولكن ما لم يكن يتوقعه والذي إنصدم به في داره الجديده لاحقا هو أنه في دار جنات فإنه غير مسموح له بمقابله أحبابه ومعارفه الذين لم يتم قبولهم في هذه الدار لعدم كفاءتهم ، كما أنه في دار جنات لا يوجد معنى لشيء يسمى الكفاح ،ولا معنى للوطنية ، ولا معنى للمستقبل ، ولا معنى للأحلام ،ولا معنى للشوق ،ولا معنى للإختراع ولا للإنجاز ولا للتعلم ، كما أنه لا معنى للفخر والتميز لأن كل من في هذه الدار يحصلون على نفس الأشياء التي يحصل عليها هو .. الشيء الوحيد الذي له معنى هو العطاء المؤبد الذي أصبح هو نفسه لاحقا بلا معنى وبلا طعم ، حينها فقط أدرك أن الجنة حرمان أكثر من كونها عطاء ، حينها فقط أدرك أن الجنة ليست هي من يصنع منك بطلا خالدا بل الحياة هي التي كان يمكن أن تفعل ذلك ، حينها فقط أدرك -وبعد فوات الأوان- أن الجنة ليست سوى نار مزخرفة ..
وهكذا يبدو أن الحياة والموت كلاهما يثبتان مع الوقت أن بني آدم والسعادة خطان متوازيان لا ولم ولن يتقابلا !!