أحب الاستماع إلى الراديو وخاصة الأغاني حينما تكون يداي مشغولتين بشئ ما، أحب أن اسمع الموسيقى في الخلفية دائما وكما افعل يوميا فتحت الراديو مرة لأجد إحدى أغاني المفضلة “على بالي” للمغنية عايدة الأيوبي، أحب هذه الأغنية لأنها من الأغاني التي تركت في أثرا في فترة المراهقة والانفتاح الأول على عالم الموسيقى
لم اتوقع حينئذ ان يكون لكلمات هذه الاغنية معنى اعمق في حياتي لأنها تتحدث عن الهجرة.عادت بي الاغنية إلى ذكريات طفولتي قبل التغيرات السياسية في مصر.
كانت كلمات الأغنية مجرد كلمات تماما كما كانت مناقشاتنا العائلية عن الهجرة.
لم يكن يوجد اجتماع عائلي إلا وكان موضوع الهجرة على قائمة الموضوعات الساخنة والمناقشات الحادة بين الكبار من أبناء عمومتي وذويهم بعد موضوع الكرة وفريقي الأهلي والزمالك، ويتحول الحديث ونتبادل الموضوعات إلى أن يأتي النقاش المحتوم الذي دائما ما يبدآ بالجملة “احنا أحسن حاجة نسيب البلد دي ونهاجر”
ويستمر النقاش بين الكبار والأجيال الأصغر من عائلتي ولماذا نحن الشباب نتوق إلى الهجرة وكيف تسئ مصر إلينا بينما توفر الهجرة الفرص اللامعة لنا، وتجذب أنظارنا كما تجذب الأضواء عيون الأطفال ونرى في الهجرة الأمل بعيدا عن الاختناق والشعور بالضغط اليومي في عالم يتناحر فيه الشعب كل يوم – شعب لا يراعي ولا يبالي ولا يشكر- بينما يمتلئ حديث الكبار بالنصح والإرشاد حول صعوبة ترك الحاضر والإلمام بثقافة جديدة وحياة جديدة وما تتطلبها من مجهود وإصرار وعزيمة قوية.
يمتد الحديث بين الجيلين ونظل ندرس ونفحص ونحلل حيوات من سبقونا من أهل وأقارب إلى العالم الغربي ونحلل حياتهم من وجهة نظرنا المحدودة، وكيف باءت اختياراتهم بالنجاح أو بالفشل ونقيمهم وكأن لنا المعرفة والحق في التقييم، يتطور الحديث وننفعل به في محاولة جادة لكل جيل أن يثبت للأخر وجهة نظره التي تعتمد على خبرته الشخصية حتى ينتهي الحديث مع وقت الرحيل ليعود وتبدأ دورتهمن جديد.
كانت أحاديث… أحاديث كثيرة لأن الهجرة وقتها كانت اختيار… حتي للذين سبقونا كانت اختيار، كانت تتطول الأحاديث بين العائلات والأصدقاء وتتأجل القرارات، لم يكن الاختيار سهلا ولم يستطع له كل من كان يتشدق به ويدافع عنه مع رغبته الشديدة في التغيير وإطلاق الطاقات المخزونة، ظلالحديث في الهجرة يطوى ويوضع على رف الأشياء المؤجلة إلى حين استدعائها لحديث اخر.
لكنها يبدو وأنها قد ملت الانتظار والمكوث على الرف فخرجت تعلن احتجاجها،
خرجت لتعلن انها ليست فقط مادة للأحلام والحكي،
نصبت شباكها وجمعت ما جمعت من عائلات وأصحاب وجذبتهم بعيدا،
انتهت الأحاديث وبدأت القرارات تتفعل. يمضون الأوراق، يدفعون الأموال، يذرفون الدمعات، يركبون الطائرات، ويطأون بأقدامهم أراض جديدة، ويواجهون ثقافات جديدة يعيشون فيها ولا يمتزجون بها كما لا يمتزج الزيت بالمياه،
وتبدأ الرحلة الواقعية بعيدا عن الأحلام والأفكار التي خاضت بالأذهان،
تعيش بين الواقع والخيال،
تحيا في بيت مصري تمتلئ جنباته برائحة قوية لمأكولات مصرية تركت أثارها تراكمات غير منظورة على الحوائط وبين جوانب المفروشات وتتراقص صور الأفلام المصرية ذات الطابع الثمانيني على شاشة التلفاز. تؤكد لنفسك كل يوم انك مصري ومن أصول مصرية ولست كائن متحول متغير بتغير المكان غير أنك ومع اللحظة التي تطأ فيها قدمك خارجا تضع مصريتك جانبا لتبدأ التفاعل مع مجتمع لا يعرف من مصريتك شيئا إلا سمرتك وملامح وجهك ولا يهمه أن يعرف شيئا الا ما يؤكد او ينفي له ما قرأه في كتاب مرة.
ملامح الآخرين كلها واحدة مع اختلاف جنسياتهم إلى أن ترى وجها مألوفا بسمرته وجها مصريا تستطيع أن تميزه من بعيد… تتوجه إليه… تبدأ الحديث ولكنه ينتهي سريعا… ليس للحديث كمالة لأن كل منكما يتحدث لغة مختلفة فهو يرى فيك مرحلة سالفة وقف عندها ذووه حينما اتخذوا قرارا وتركوا مصر وتوقف بهم الزمن، وبدأ هو وحده رحلة جديدة جريئة سقطت على أطرافها مصريته وتحولت لصور باهتة لذكريات بعيدة بينما أنت تحاول أن ترى فيه الأمل وتجذب منه أطراف المستقبل الذي سار فيه أميالا ولا تستطيع لأن رحلتك مختلفة.
تخطو رحلتك وحدك مع أن كثيرين حولك، تستكشف وتتعلم، تنهمر عليك تعليقات كثيرة ممن سبقوك في الهجرة منها نصائح جيدة ومنها لوم متخف ملتحف بثوب النصح.
ومع رحلة البحث عن عمل ووضع حجر الأساس لحياة جديدة ومد خطوط الاتصال لخلق شبكة علاقات في بلاد غريبة تذوب ذكريات الماضي وتتخلخل شباك العلاقات السابقة وتجد نفسك شيئا فشيئا قد اتسعت رئتيك لاستقبال هواء جديد وعقلك يفكر في اتجاه جديد ولكن قلبك يظل فيه حنين يختفي تحت طيات الهموم والمشاعر السطحية، حنين تجاه ماض بعيد وهوية مطموسة تلجأ اليها في أوقات التعب والاحتياج ويتحول الحنين الى سؤال: هل كانت الهجرة اختيار ام اضطرار؟
سؤال حيرني كثيرا حتى قطعت حيرتي انتهاء أغنية عايدة الأيوبي “على بالي” واعلان المذيع سلسلة من الأخبار المحلية لتعيدني لواقعي من جديد.