كنا قد تحدثنا في ” المقال الثاني ” من سلسلة المقالات ، عن معمودية يوحنا ليهيئ بها الطريق أمام معمودية العهد الجديد , أن عماد المعمدان قائم علي الاعتراف بالخطايا دون قبول نعمه والموت عن حياة الخطية دون قيامه , وأن الخطية عند المعمدان هي تك الله وعدم طاعة وصاياه والتوبة عنده هي العودة إلي ( يهوه ) والخضوع لوصاياه
أما في الحلقة الثالثة :-
وفي هذه الحلقة يعلم يوحنا طريق التوبـة . حيث سأله الجموع : ” فماذا نفعل ؟ فأجاب : من له ثوبان فليعط مـن ليس لـه ، ومن لـه طعام فليفعـل هكـذا ” ( لوقا 3 : 10 – 11 ) .
هذا نداء من يوحنا المعمدان فيها دعوه للشركة في الفقر تلح من بعيد عن محبه العطاء للفقر أو علي الوجه الصحيح ( للأكثر فقراً ) . وكذلك في رغيف الطعام , فرغيف المحبة يشبع جائعين ويفيض , وقد جاء في الأمثال “بركة الرب تغني ولا يزيد معها تعب ” (أمثال 10 : 22) . بدأت تظهر واحده من تعاليم يوحنا وهي رائحة المحبة التي ستجرف البشرية في تيار العطاء والبذل في قولة : “ لأنه هكذا أحب الله العالم حتي بذل ابنه الوحيد ” ( يوحنا 3 : 16 ) . وهنا يضع يوحنا أول خطوط معني العدل القائم علي الرحمة والذي ينبع أصلا من المحبة ثم بدا يوحنا يتنبأ بمجيء السيد المسيح قائلاً : ” أنا أعمدكم بماء ولكن يأتي من هو أقوي مني الذي لست أهلاً أن أحل سيور حذائه فهو سيعمدكم بالروح القدس والنار , الذي رفشه في يده وسينقي بيدره ويجمع القمح إلي مخزنه , وأما التبن فيحرقه بنار لا تطفئ ” ( لو 3 : 15 – 17 ) . وتفسير تعبير ” روح القدس والنار ” –حيث أن الروح القدس هو نار وقد حل علي الآباء الرسل والمؤمنين بشكل السنة نار ، وهكذا تتحقق كلمة الرب ” جئت لألقي ناراً علي الأرض فماذا أريد أن اضطرمت ” (لوقا 12: 49 ) .
ومن هذا نفهم لماذا يقول يوحنا المعمدان : ” لست أهلاً أن أحمل حذاءه ” (مت 3 :11)- لأن عمل المعمدان لا يرقى أكثر من دائرة الجسد ,أي إزالة وسخ الجسد ” – أي رفع الخطية عن الجسد , أما عمل السيد المسيح هو رفـع الخطية عن الجسد والنفس والروح كما بنار , ليحل محلهـا عمل الروح القدس للمصالحة مع الله وميراث الحياة الأبدية .
الفرق بين التطهير بالماء , والتطهير بالروح القدس – كما هو الفرق بين غسيل الماء وتطهير النار –حيث الأول كان سمه العهد القديم , والثاني هو قوة العهد الجديد علي أساس النار هي نار اللاهوت , فعل الطبيعة الإلهية .. فما أبعد الفرق بين الخالق والمخلوق !! بين السيد والعبد !! وبين القدوس والقديس !! فأن يوحنا المعمدان لا يعدو أن يكون خادم أو اقل وغير مستحق لأن يخدم السيد المسيح .
فمجئ الرب هو للرحمة وللدينونه , فالرحمة للذين يقبلونه والدينونه للذين يرفضونه , وقد شهد يوحنا للسيد المسيح وعمله الخلاصى ومعموديته بالروح القدس .
وقبل أن يبدأ رب المجد يسوع المسيح خدمته – جاء من الناصرة بالجليل حيث تربي ،عند الثلاثين من عمره ليعتمد من يوحنا في نهر الأردن ولكن يوحنا منعه قائلاً : ” أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إليّ ! فقال يسوع المسيح له ” اسمح الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر, حينئذ سمح له ” 0 متى 3 : 13 – 15 ) , ( مر 1 : 9 ) , ( لو3 : 21 ) .
لقد أقتضي الأمر أن يمارس الرسوم و التطهيرات المكلف بها الإنسان حيث جاء في رسالة بولس الرسول إلي أهل فيلبي ” اخلي نفسه أخذا صوره عبد صائراً في شبهالناس ” ( فيلبي 2 : 7 ) _ وأيضاً كما جاء في نبوه أشعياء النبي ” أحٌصي مع أثمه ” وكما أيضاً جاء في الرسالة الثانية لبولس الرسول إلي أهل كورنثوس حيث قال ” جٌعل خطيه لأجلنا ” .
لقد جاءت جموع الشعب إلي يوحنا المعمدان معترفين بخطاياهم , وتائبين عنها ومعتمدين منه في نهر الأردن – ولكن حين يأتي الرب يسوع المسيح فأنه لا يأتي لكي يعترف كباقي الشعب بالخطايا – لأنه هو بلا خطايا . أنه قدوس كليّ القداسة – حيث انه تحدي كل الذين كانوا يحاولون أن يتصيدوا عليه أي خطأ قائلاً : ” من منكم يبكتني علي خطيه ” ( يو 8 : 46 ) وأنه كان باراً بلا خطية حيث قال عن بطرس الرسول ( الذي لم يفعل خطية , ولا وجد في فمة مكر الذي إذا شٌتم لم يكن يشتم عوضاً , وإذا تألم لم يكن يهدد بل كان يسلم لمن يقضي بعدل ” ( ابط 2 : 22 – 23 ) .
لقد شهد للسيد المسيح كل من عرفوه فمثلاً :
لقد أدرك يوحنا المعمدان – أن الذي أمامه يفوقه بما لا يقاس في القداسة والطهارة ، وأنه ( أي يوحنا المعمدان ) – إنسان خاطئ – هو لم يعرفه ولكنه أدرك أنه واقف أمام شخص فائق القداسة ، وإشعاعات القداسة والطهارة والبر الصادرة عنه ، لا شك أن القديس يوحنا أحسن بها وأدركها ..
يقول الكتاب ” فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء ، وإذا السموات قد انفتحت له فرأي روح الله نازلاً مثل حمامه وآتيه عليه ” . ( مت 3 : 16 ) ، ( مر 1 : 10 )
من كلمة ” صعد من الماء ” يتضح لنا أن العماد قد تم بالتغطيس – أي الدفن في الماء كما ينص الطقس القبطي وكان لتكميل فعل العماد باستعلان الروح القدس .
والسؤال هنا … لما حلّ الروح القدس علي السيد المسيح في شكل حمامه وهو واحد مع الروح القدس ، كما أنه واحد مع الآب في الجوهر ؟؟
كان حلول الروح القدس علي السيد المسيح لكي ما يٌمسح بصفته الناسوتيه بالمسحة المقدسة . وأن هذا الحلول لم يكن حلولاً جوهرياً ، لأن المسيح لم يكن قط بدون الروح القدس منذ حُبل به في بطن العذراء بل هو حلول ما للأبن علي الابن المتجسد … فهو حلول للاستعلان فقط – كما في صوت الأب ” هذا هو أبني الحبيب ” .
وكما جاء أيضاً في الكتاب : ” أما يسوع فرجع مـن الأردن ممتلئاً مـن الروح القدس (لوقا 4 : 1 ) فإن كلمة ” ممتلأ ” هنا وردت فقط ” كحال ” . فالمسيح لم يكن قط غير ممتلئ بالروح القدس – وكما يقول القديس لوقا البشير – أن الروح القدس نزل ” بهيئة حمامة ” أي نزل بهيئة ” جسمية ” في صورة حمامه – ولم تكن هذه الحمامة هي الروح القدس –بل فقط هي حققت للرائين كيف نزل الروح القدس كفعل حقيقي منظور – للتأكيد والشهادة – فإن المنظر الخارجي للألهيات يخص العين البشرية التي لا تري إلا الأجسام والهيئات ، أما جوهر الإلهيات فلا يري بالحواس البشرية قط ..
تذكرنا هنا – تلك الحمامة – هذه التي كانت ترف علي وجه المياه في بدء الخليقة –وحيث يبدو التماثل بينها وبين الحمامه التي رفت علي هامة المسيح ، الفارق الوحيد بين تلك الحمامتين هو أن الأولى كانت ترف علي وجه الماء في البدء المخلوق أرضياً ، وفي الثانية فهي للخلق السماوي .
أن نزل الروح القدس علي هامة الرب يسوع – هي نزول الروح لمثيل علي المثيل – فلم يزد شيئاً – ولكن أستعلن ماله أصلاً فهو الله الظاهر في الجسد ، هو الله وقد أتخذ ناسوتاً ظهر فيه . وقد عبر عن عقيدتنا القديس كيرلس الكبير وعمود الدين قائلاً : ” طبيعة واحدة لكلمة الله المتجسد ” – ولكن هذه ” الطبيعة الواحدة ” لم تختلط فيها الطبيعة الإلهية بالطبيعة الناسوتيه – بل ظل لكل منهما خواصه .
والي أن نلتقي في المقال الرابع أن شاء الرب وعشنا .