ما أشبه الليلة بالبارحة..
منذ مائة عام تقريبا تعرض العالم لحرب بل لحروب كثيرة كادت تؤدى بنهاية الوجود الإنسانى نفسه، وقتل وجرح الملايين من البشر دون سبب رئيسى إلا التعصب والطمع والكراهية، ووصل العلم الى اختراعات واكتشافات كثيرة يمكن لها أن تنهى بقاء الإنسان فى هذا العالم، وتجعله مجرد ذكرى!
ألا تفعل القنبلة الهيدروجينية والنووية ذلك؟!.
من هنا قام علماء وزعماء العالم ينتفضون لهذا الخطر الذى يهدد بقاء الإنسان ومستقبله، وكان بيان: برتراند رايل ومعه: البرت أنيشتين عام 1955 يستنكران استخدام أحدث إكتشافات التكنولوجيا فى قتل وتدمير الحضارة الإنسانية، ويطالبان باستخدامها سلمياً فقط فى بناء الحضارة.
مع ذلك قامت الحرب العالمية الأولى والثانية، وفى انتظار حرب عالمية ثالثة وهكذا، وإهتم العالم والأديب برتراند رايل، الذى عاش بين السنوات 1872- 1970 أن يصدر كتابا يعالج فيه مشكلة الحرب تحت عنوان: هل للإنسان مستقبل؟.
والحرب هى الحرب، سواء كانت من أجل الطمع والإغتصاب والتملك، أو من أجل فرض نظم وأيديولوجيات وأديان على الآخرين؟
لأن الإنسان وإن كنا نعيش فى القرن الحادى والعشرين إلا أنه مازال يجهل معنى الحرية الحقيقية التى يجب أن يتمتع بها الإنسان فى كل مكان وزمان.
ما أشبه الليلة بالبارحة..
يشتعل العالم هذه الأيام بالحروب والقتل والتدمير بسبب التعصب الأعمى ، وعدم فهم الرسالات السماوية فهما حقيقيا، وعدم معرفة فلسفة الأديان الواحدة.
نجد أنفسنا محتاجون إلى إعادة قراءة كتاب العالم الأديب: برتراند رايل.. هل للإنسان مستقبل؟
يتساءل المؤلف: ماذا سيحدث إذا نشبت حرب نووية؟
ويجيب: ان تقديرات الخبراء متباينة، فالبعض يعتقد أن الحرب ستغنى نصف البشرية، أما المتشائمون فيرون أن الحرب النووية ستعصف بالوجود الإنسانى من جذوره.!!
يقول برتراند رايل:
لابد أن يفهم رجال السياسة فى العالم أن الشعوب ترغب فى البقاء والعيش، وأنها تكترث كثيرا بالمنازعات الأيدلوجية، وأن الجانب السياسى فى حياة الناس طفيف، كما ينبغى على الساسة فى العالم أن يدركوا الوشائج التى لا تنفصم والتى تربط الكيان الإنسانى غربا وشرقا، فالإنسانية جمعاء تجمعهما وحده الآمال والأفراح والأحزان، والإنسان العادى ينصرف الى مشاكل الحياة اليومية بعيدا عن السياسة ومنازعاتها فهو يأكل وينام ويحب ويقيم عواطف إنسانية تربطه بأهله وعشيرته.
أن الذين يرضون لأنفسهم وللجنس البشرى الهلاك سواء فى الغرب أو فى الشرق لأنهم يفضلون الموت على الخضوع لنظام إجتماعى واقتصادى وسياسى يكرهونه هم فئة قليلة مريضة بالمشاحنات السياسية والتعصبية.
ويعجب: رايل من زيف أو غفلة بعض الغربيين الذين يبدون استعدادهم للتورط فى حرب نووية دفاعا عن الحرية الديمقراطية ويتحداهم أن يستفتوا شعوب الأرض قاطبة فى هذا الشأن، وأن يطرحوا السؤال التالى على كل فرد من أفراد الأرض حتى يتبينوا بأنفسهم إذا كانوا يمثلون إرادة الشعوب ورغباتها أم لا..
اتفضل أن تعيش تحت نظام سياسى واقتصادى يختلف عن النظام الذى تعيش فيه أو تفضل القضاء على الإنسانية بأسرها؟ لو أننا طرحنا هذا السؤال على أى إنسان لا تهمنا بالجنون ورمانا باللوثة وهو محق فى ذلك فبناء الإنسانية وسلامتها من الفناء فوق كل اعتبار.
يناقش: فيلسوفنا وعالمنا: برتراند تريل مشكلة الحرب وآثارها وكيف نعالجها ونلغيها من قاموس البشر فى كتابه فيتساءل: ما الحل أذن؟
ويجيب: لابد من تقارب وجهات النظر الدولية، لابد أن نعيد إلى أذهاننا الدروس التى تعلمناها فى القرنين السابع والثامن عشر وهى الانصات إلى صوت العقل والتسامح.
لقد نسينا الدرس الذى تلقيناه على يد (لوك) فيلسوف العقل والتسامح فى القرن الثامن عشر. لقد كنا عقلاء عندما تسامحنا فى الاديان وعندما آمنا با الحقائق الدينية يمكنها أن تعيش جنباً إلى جنب فى وئام وسلام، وان الحروب الدينية اقر من اثار الماضى البغيض. لقد تعلم المسيحيون والمسلمون أن يعيشوا جنباً إلى جنب كما إدرك الكاثوليك والبروتستانت حماقة إراقة الدماء بسبب الخلاف العقائدى ولكننا لم ندرك حتى الأن اهمية العقل والتسامح فى المجال السياسى. على الدول الكبرى أن تسعى مخلصة إلى اقرار السلام لا إلى المناورات السياسية التى تهدف إلى تسجيل انتصارات دبلوماسية فى حرب الدعاية.
يقترح برتراند رايل انشاء حكومة عالمية، وهو يقول أنه مشروع اقرب إلى الخيال فى الوقت الحاضر، لكنه يريد من الانسانية أن تسعى إلى تحقيق هذا الهدف الكبير.
ويقول: انه على الرغم من فشل عصبة الأمم فى الماضى والأمم المتحدة فى الوقت الحاضر فى اقرار السلام إلا أنه من الممكن تطوير الأمم المتحدة بحيث تصبح نواة لحكومة عالمية ويشمل اقتراح رايل للحكومة العالمية فى كتابه: هل للانسان مستقبل، النقاط التالية:
اولا: لابد أن تكون لهذه الهيئة- أو الحكومة- سلطة تنفيذية تستطيع بها وضع قراراتها موضع التنفيذ، ولابد لهذه الهيئة العالمية من إنشاء جيش عالمى قوى يضمن القرارات الدولية الإحترام والتنفيذ.
ثانيا: يقترح رايل تقسيم العالم إلى مناطق فيدرالية يراعى فيها التساوى فى عدد السكان بقدر الامكان وتسمى هذه المناطق بالفيدراليات، وليست الحكومة العالمية إلا اتحادا عاماً لهذه الفيدراليات، والغرض من مراعاة التساوى فى عدد السكان هو ضمان تمثيل ارادة العالم تمثيلا صحيحا.
ثالثا: يجب إلغاء حق الفيتو المعمول به فى مجلس الأمن الذى لا يضم سوى حفنة من الدول، فمن شأن حق الفيتو ان يعطل تنفيذ سائر القرارات التى يكاد يجمع عليها المجلس.
رابعا: بما ان الغرض الاساسى من إنشاء حكومة عالمية هو اقرار السلام، فليس من حق هذه الحكومة العالمية أن تتدخل فى المسائل الداخلية لأية دول فيدرالية فلها أن تختار أى دين وأى نظام اجتماعى سياسى واقتصادى يحلو لها.
خامسا: الهدف من إنشاء الحكومة العالمية وتكوين قوة ضاربة هو القضاء على كل محاولة من جانب أى فيدرالية لتعكير صفو السلام العالمى. وتصبح الاسلحة الذرية للحكومة العالمية. دور السلاح الذرى فى العالم الحديث هو نفس الدور الذى لعبه البارود فى الماضى وهو منع أية دولة قد يعن لها الاستقلال عن الحكومة المركزية.
سادسا: لابد أن يراعى فى تكوين وحدات القوات المسلحة التابعة للحكومة العالمية ان تشتمل كل وحدة على كل الجنسيات فى العالم حتى نمنع الجنود التابعين لجنسية واحدة من التكتل فى صعيد واحد، فلو ان الحكومة العالمية اصدرت اوامرها لوحدة من الواحدات الجيش بالتحرك للعمل ضد دولة تحاول تعكير صفو السلام العالمى وكانت كل هذه الوحدة اوغالبيتها تنتمى الى هذه الدولة الخارجة عن القانون الدولى لعمدت إلى التلكؤ فى تنفيذ الأوامر او تعطيلها.
بعد اقتراحه بتكوين حكومة عالمية يقول رايل: لابد للعالم ان يعيد النظر فى اسلوب تفكيره من جديد، ولابد له ان يختط اسلوبا جديدا يتمشى ومقتضيات العصر الحديث. لا بد للعالم ان ينصت الى صوت العقل والتسامح، ولابد له من نبذ التعصب الذى يعمى الانسان عن فضائل غيره ويؤدى الى تمجيد الانسان لفضائله التى يتوهم انه يتحلى بها دون خلق الله. والانسان المتعصب موقن انه على صواب وان غيره على خطأ دون ان يخطر له اننا جميعا بشر غير منزهين عن الخطأ.
الطريف ان فيلسوفنا برتراند رايل يقول ان الانسان امكن له ان يبقى ويعيش حتى الان بسبب جهله قبل الوصول الى التكنولوجيا واكتشاف الاسلحة الخطيرة الفتاكة التى تهدد وجوده فى هذه الحياة، وعلى هذه الارض.
لذلك يتساءل: بعد هذه الاكتشافات الكبيرة هل للإنسان مستقبل؟
ويجيب على هذا السؤال الخطير باقتراحه شبه الخيالى بتكوين حكومة عالمية لها جيش قوى افراده من كل جنسيات العالم. انه اقتراح انسان مثالى يحلم به كل سكان الدنيا فهل يتحقق؟
نرجو ذلك من اجل سلام العالم وامن حرية البشر.