تعنى كلمة عشوائى الطيش والتسرع وغياب الرؤية والبصيرة، أى السير على غير هدى، والاختيار العشوائى هو اختيار بدون قصد أو تحديد. ويجرى استخدام كلمة “عشوائى” بشكل أساسىلوصف غياب الرؤية فى التخطيط العمرانى، الأمر الذى يؤدى إلى ظهور “العشوائيات” وهى أماكن هامشية تنمو بصورة سرطانية على حدود المدن وداخلها وتفتقر إلى التخطيط والخدمات. ومع انفلات الأمور وغياب الرؤية والتخطيط اتسع نطاق ظاهرة العشوائيات فلم تعد هامشية، حيث امتدت إلى مناطق من المفترض أنها ضمن نطاق التخطيط. وهكذا، ضاعت الحدود بين المخطط والعشوائى، حتى تم الجمع بين كلمتين متناقضتين تماما وذلك عندما نقول “التخطيط العشوائى”. وليس غريبا أنه كما توجد وزارة للتخطيط، فقد تم استحداث وزارة للعشوائيات، مع أن العشوائيات هى نتيجة لسوء التخطيط. ومن المؤسف أن وصف “عشوائى” بات ينطبق على الكثير من أمور الحياة العامة والشخصية فى ظل غياب الرؤى السياسية والاجتماعية والثقافية والقيمية.
وفى هذه السطور أود الإشارة إلى ظاهرة أخرى من ظواهر العشوائية باتت تستفحل وتستنفذ طاقتنا، وأعنى بذلك “عشوائية المشاعر”.ولا أقصد بذلك طيش المشاعر، لأننا ببساطة لا نخطط لمشاعرنا، فالمشاعر ليست أشياء مادية نرتبها ونصنفها حسب رؤية ووفق توقعات مسبقة.ولكن ما أعنيه هو أمر يتعلق بعدم الاستقرار والتخبط المتسارع فى المشاعر، فقد أصبحت وتيرة التحول من حالة نفسية أو مزاجية إلى أخرى سريعة جدا، فليس هناك حدود واضحة بين الحزن والفرح، أو التشاؤم والتفاؤل، أو الحب والكره.فمع تسارع وتيرة تقلبات المشاعر بات تداخلها وتصادمها سريعا إلى درجة مربكة. وقد يكون السبب، كما هو معروف، تسارع وتيرة الحياة بشكل عام بما يؤثر على الحالة النفسية والمزاجية للأشخاص.ولكن إلى جانب ذلك، ثمة تحولات مرتبطة بتغير أنماط التواصل، فنحن أصبحنا متصلين بشكل كبير، كما أصبحنا منعزلين بشكل غير مسبوق، وهذا المركب الذى يجمع بين التواصل والعزلة فى سلة واحدة يعد غريباً ومرهقاً.
فنحن نعيش فى واقع كفيل بأن يمنحنا الكثير من الحزن والقليل من الفرح، ولكن الأسوأ اننا محاصرون بأسوار من الشاشات، التلفزيون والكومبيوتر والموبايل، حيث نسبح فى تيار به عدد هائل من المواقف والمشاهد والتعبيرات والعبارات، والتى تأخذنا فى موجات متسارعة من المشاعر المتضاربة مابين مشاهد الورود والقبور، وعبارات التفاؤل والتشاؤم، والاحتفاء بالسعادة والشكوى من الاحباط والألم. وهكذا تصبح كل شاشة وكأنها مستعمرة عشوائية تصيبنا بالعدوى، فتخطف أبصارنا، وتشوش عقولنا، وتشتت إدراكاتنا ومشاعرنا. وفى هذه المستعمرة ثمة ما هو طبيعى وما هو مصطنع، فقد نفرح أو نحزن لرؤية مشهد أو قراءة خبر حقيقي. ولكن بالمقابل فإننا نتحمل ونُحمل بعضنا أفراحا وأحزانا مفتعلة أو بدافع الرغبة فى تصدير حالة مزاجية خاصة. فثمة مواقف هدفها صناعة الكآبة، وأخرى الهدف منها اصطناع الفرح. خاصة وأن الحدود بين المجال الخاص والعام فى التواصل لم تعد كالسابق، فلم نعد نعيش فقط مشاعرنا الخاصة، بل نتمثل ونتفاعل مع عدد كبير من المشاعر االطبيعية والمصطنعة وهو ما يفوق طاقتنا النفسية، فتصبح نفوسنا ملطخة بألوان متنافرة وكأنها لوحات لرسومات عشوائية.
ومن بيننا من ينجح فى أن يضع مسافة بينه وبين سطوة الشاشات، ولكن أكثرنا يصاب بالعدوى ويصبح حاملا لها. وإذا كان هذا مجرد إشارة إلى حالة غير سوية تتعلق بمشاعرنا التى أصبحت أكثر اضطرابا، فإن العلاج لابد وأن يقدمه المتخصصون. ولكن الأكيد أننا فى حاجة لإعادة النظر فى شكل تواصلنا وطبيعة عزلتنا، فنحن فى حاجة إلى تواصل أقل ومن ثم عزلة أقل، وإلى انتقاء الألوان التى ستلون لوحة مشاعرنا اليومية: فهل وصلنا إلى مرحلة نحتاج فيها إلى التخطيط لمشاعرنا؟ ربما يكون هذا مجرد وهم، لكن الحقيقة أن الحالة العفوية التى نتواصل من خلالها الآن، إلكترونيا وإعلاميا، تقودنا إلى نمط جديد من العشوائية: عشوائية المشاعر.