مطلوب لشركة كبرى جميع التخصصات بمرتبات مجزية ، لا تشترط الخبرة .
أستيقظ في الصباح الباكر ، أكوي ملابس العيد ، بموس قديم أحلق ذقني بعناية ، اجتهد في إعادة حذائي القديم إلى الحياة، بفرحة طفولية افتح علبة الورنيش الجديدة التى اشتريتها الليلة الماضية ، أنقل العنوان في ظهر ورقة النتيجة ، أطويها ، أضعها بجيب قميصي .
أرفع مرتبة السرير المتهالكة ، أسحب الظرف البني القديم برفق، أفتحه، أراجع أوراقي الراقدة داخله منذ تخرجي .
أهبط درجات السلم .. تصحبنى دعوات أمي بصوتها الواهن .. أمشي في الشارع الهادىء بخطوات متحمسة، أمسك الأجرة بيدى، أنحني داخل الميكروباص، احاول أن احفظ اتزانى لتجنب السقوط ، آلام الوقوف ورأسى الساقطة على صدرى ورائحة البرفان الرخيص الصادر من الفتاة التى تأكل أظافرها وتزرع هاتفها المحمول داخل طرحتها تصفع كل حواسى، الطريق طويل إلى محطة المترو وأمنيات الوصول تتحالف مع آلام الرقبة، فأقرر الهبوط قبل المكان.
في صالة واسعة يلفحني هواء التكييف البارد، ينعش رئتاى، تتمدد حواسى لاستقبال نسيمه، ارفع يدى لأعلى اتجول أمامه ، أشعر بسعادة لحظية ، ادور دورة كاملة كراقص باليه يقدم أول عروضه، تنتبه السكرتيرة لوجودى، تصرخ في وجهي بعصبي:
الإستمارة الأول .. الإستمارة بخمسة جنيه
اتحسس جيبي اجمع كل ما تبقى “4 جنيهات ونصف جنيه وربعين” وجنيه آخر ابقيه للعودة، اقدم النقود، تنظر نحوى باستغراب ، وبطرف أصابعها تقدم الورقة، افحصها سريعا، اطلب القلم، تمده لي مربوطا في مكتبها باستك سميك ، اضحك من الفكرة وأنا اتخيل شخص بين خطوة وأخرى يرفع ملابسه الداخلية حتى لا تسقط، وأن الشركة حتما أخذت الاستك “خلاصة حق” ليكون عبرة لمن يفكر في أن يتلاعب بصاحبها.
ساعة من الانتظار ، اراقب بعيني حوائط المكتب واللوحات المتهالكة الموجودة دون تنظيم واستنتج أنها لا تخص أصحاب المكان الحاليين، اراجع بصوتى الداخلى الأسئلة المنتظرة وأردد “صحيح أنا معنديش خبرة في المجال .. لكن عندى استعداد اتعلم”، انحاء السكرتيرة يخرجنى من حوارى الوهمى مع المدير، تشد البلوزة بحماس مفقود، تنادي اسمي .. انتبه .. أدخل إلى مكتب صاحب الشركة .. يستقبلني بابتسامة زائفة .
محاضرة باردة حول الطموح والشباب والمال والعمل والأمانة ، دون أن يذكر شيئا عن أجري ، ينهي حديثه فجأة .
– من النهاردة تقدر تستلم الشغل ، مسئول مبيعات بالشركة
انبهر بالمسمي واتخيل نفسى بين أصدقائى في المساء عندما نلتقى بالقرب من مدرستنا القديمة وأنا أخبرهم بأن وظيفتى الجديدة “مسئول مبيعات” ، يرتفع صوته عندما يلاحظ عدم تركيزى
– تستلم الشنطة ، والسكرتيرة هتقولك تعمل ايه
في المقهى المجاورة للمكتب ، كانت الحقيبة على كتفي وزجاجات العطور في يدي.
– برفانات … ماركات عالمية يا أستاذ … جرب يا بيه ماركات … شوف حضرتك .
– شكرا … ربنا يصلح حالك
يأتينى الرد دون أن يرفع وجهه عن الطاولة ودخان الشيشة الكثيف الخارج من فمه يغلف كل حرف في كلماته “ربنا يصلح حالك” ليوقظ بداخلى سؤالى الأزلى، متى ؟.
عرق بارد يغطي جسدي وزبائن أكثر مني بؤسا وبضاعة لا تباع .. ونظرات لا ترحم.
رائحة الطعام على مكتب السكرتيرة تداعب حواسى، سندوتشات فاخرة كنت استشعر رائحتها فقط عندما كان يحكى عنها “علي الطيار” جارنا الذى يعمل “دليفرى” في سلسلة مطاعم فشلت دوما في حفظ اسمها، بفتور شديد تدعوني للطعام … حيائي وجوعي سيفان يخترقان نفسي ، أقدم إليها الحقيبة في صمت، تقدم لي ظرفي البني القديم دون كلام .
تسبقني أحزاني إلى باب المكتب ، أحلام متكسرة ينضم إليها آخر جديد، أعبر الشارع المواجه للمبنى الفخم ، سيارة حديثة تصدمني، تهبط منها فتاة صغيرة في ذعر … يلتف الناس حولي … أشعر بسخونة الأسفلت، وسيدة تماما تشبه أمى تصرخ في الملتفين حولى
– اطلبوا الاسعاف .. بتتفرجوا على ايه
خيط رفيع من الدم يهبط من فمي إلى قميصي ليستقر بجواري … وسط الزحام ، ترتسم بداخلي صورة أمي الحزينة بملابسها السوداء جالسة على سريرها القديم في انتظار دخولي لإخبارها بفرحة لن تحدث .
داخل ثلاجة الموتى … برودة وظلام … وكيس كبير من البلاستيك يحتويني ويدي المجمدة تحتضن برفق ظرفي البني القديم !.