لم يكن غريبا بالنسبة لى أن تكون رواية “الغائب” للشاعر والروائى التونسى أنيس بن عمار عن الهجرة، فالكاتب هو أحد أدباء المهجر حيث يعيش فى مدينة مونتريال بكندا. فهل هى قصة مئات الآلاف من الشباب ممن يتركون أوطانهم فى عتمة الليل نحو المجهول فى بلاد يحلمون بها ولا يعرفونها؟ قد تكون الإجابة بنعم ولا! “نعم” لأنها قصة شاب تونسى (أمير) يضيق به الحال فى وطنه تحت وطأة الفقر وعنف أب مستهتر وقاس، فيهرب نحو عالم مجهول أملا فى الخلاص، و”لا”لأن الهجرة فى معناها الأوسع قد تكون مسألة رمزية، فكثير من البشر يهاجرون بدون أن يرحلوا، يهاجرون ويغتربون داخل ذواتهم.
ومع ذلك قد لا يهمنا إذا كانت الهجرة رمزية أو فعلية، ولكن ما يهمنا هو طعم الهجرة فى هذه الرواية، فلهجرة “الغائب” طعم خاص ومختلف، فهى لا تأخذنا إلى مستقر ولا تشغلنا بالحنين، إنها ببساطة حركة فى الخواء، انطلاقة من عتمة اللامعنى وصولا إلى اللاشئ. رحلة للحياة على هامش الحياة. وفى هذا الخواء، يحاول القارئ التقاط أى معنى للحياة، فلا يجده، فالمعنى الوحيد يأتى على استحياء مع سيرة الأم الحنون، ولكنه مثل السمكة التى تقفظ على سطح الماء فتلمع للحظة قبل أن تختفى فى أعماق كتلك التى يُلقى فيها بجثث المهاجرين.
وإذا كان لنا أن نمسك ببعض الخيوط فى هذه الرواية، فلن نجد أمامنا إلا العلاقات، وهنا أتحدث عن نوعين من العلاقات اشتبك معهما أمير فى هجرته فى اللاشئ ونحو اللاشئ. الأولى هى العلاقة بالنساء، والثانية هى علاقته بصديقه “أشرف”.
فمن ناحية أولى، يمكن القول أن لحضور النساء فى خواء الهجرة دلالة ما، فخيوطها تمتد من علاقة بالأم تتسم بالحب والحميمية وتنتهى بالعلاقة بزوجة لا نراها إلا فى زواج عابر ومخاض مؤلم، وبنات هن نتاج لهذه العلاقة الخالية من المعنى، وبين الأم والزوجة لا نجد سوى العاهرات اللائى تُصاغ من خلالهن علاقة المهاجر بمدن الهجرة.
وبترك عالم الأم، يبدأ عالم الجنس، ذلك الشئ المادى الذى يشتعل على سطح الجسد، هو حلقة الوصل بين المهاجر وإمرأة وطنه الأصلى (زوجته) وعاهرات المهجر، والجنس لا يعنى اللذة بقدر ما يعنى خواء المشاعر الإنسانية.
وعندما نلمس حضورا إنسانيا وعاطفيا للنساء يكون حضورا خافتا، ويؤكد البون الشاسع بين بطل الرواية المهاجر وهذا العالم الذى لا يألفه وإنما يسمع عنه فى حياة رجال آخرين، كتلك الفتاة التى أحبها “عيسى” العامل الصومالى المهاجر،عندما يحكى عنها كأنها أغنيته الأخيرة قبل أن تنتهى حياته فى المهجر ويصبح فى قبضة رجال شرطة الهجرة، أما الصورة الأخرى لفتاة فهى مجرد وشم على ذراع صاحب المقهى، صورة تجعل امير يتخيل قصة حب ما لم يشأ ان يسأل صاحب المقهى عنها.
أما العلاقة المحورية الثانية فى هذه الرواية، فهى علاقة أمير بصديقه أشرف، ذلك الشاب التونسى الذى صار رفيق هجرته، إنه الشاب الأكثر جرأة والذى تولى قيادة دفة الهجرة. إن “أشرف” ليس الوجه الأخر لأمير، ليس الجرأة مقابل الخوف، فأشرف هو حقيقة الهجرة وألاعيبها، إنه الصديق الصدوق لأمير ولكنه أيضا كل الأعمال القذرة التى يتطلبها بقاء أمير فى خواء الهجرة، فهو السارق والخائن والمتحايل، إنه الوعى العابر للحدود والقادر على فهم مشاعر الآخرين والتلاعببها، إنه ببساطة ضمير الهجرة والتى هى بلا ضمير. فأشرف هو الضرورة وشرط بقاء أمير فى عالم الهجرة، ولأنه كذلك فهو يختفى فى نهاية الرواية عندما تكتمل الرحلة ويكتمل الخواء. يقول الراوى عن أمير فى آخر سطور الرواية: “… لم يكد ينحدر إلى هوة اللاشئ حتى سمع صوت أشرف وهو يهتف بصوت طفولى قادم من أعماق الماضى السحيق: “انظر يا أمير .. انظر هناك.. انظر جيدا! قطعة أرض خضراء قد بدأت تطفو خلف المياه.. لقد وصلنا غلى مونريال!”.. ويضيف “كان ذلك منذ عشرين عاما. أما الآن، فقد همدت كل الكائنات بداخله وأطبق حول جسده ظلام كثيف. بغد لحظات غاص فى عتمة اللاشئ..”