تتضمن هذه السطور وجهة نظر حول رواية “الطليانى” للكاتب والأكاديمى التونسى “شكرى المبخوت” التى فازت مؤخرا بجائزة “البوكر”. وعلى مايبدو أن هذه الرواية تعكس مسارا عايشه الكاتب، وأراد لنا أن نعيشه بلغته وذاكرته فى صورة رواية. ولكن عندما تكون الشخصيات والمواقف مألوفة، فإن إعادة صياغتها من فى قالب روائى هو نوع من المجازفة، حيث يكون على الكاتب أن يجعل المألوف مدهشا والمدهش مألوفا. إن محاولة الكاتب سد الفجوة بين المألوف والمدهش، ربما دفعته إلى صياغة الشخصيات والمواقف ضمن حدها الأقصى، والتى أخذت شكل المبالغة بالمعنيين اللغوى والثقافى. وهذه هى المسألة المحورية التى قرأت من خلالها هذا العمل الأدبى. فقد لاحظت، كقارئ، أن الحد الأقصى يلاحقنى فى كل مواقع الرواية، وكأننى مجبر على الإندهاش بكل شخصية ومع كل موقف.
ولنأخذ مثالا على ذلك شخصية رئيسية فى الرواية وهى شخصية “زينة” فهى تجسد الحد الأقصى للذكاء وللثقافة والجمال والتمرد والألم والانتهاك والضعف، إنها كل الحدود القصوى. وربما تكون هذه حالة كل الشخصيات وأغلب المواقف فى الرواية، حتى شخصية رجل الأمن (عثمان) لم تسلم من المبالغة، فتحول من رجل أمن إلى ملاك حارس يجود بكل ما يملك من سلطة من أجل حماية بطل الرواية (الطليانى). وفى حين يواصل الكاتب سردا متواليا، فقد ينساق قارئ وراء الموجة السردية، وقد يتوقف قارئ آخر، كحالتى، ليراقبه عن بعد وهو يرحل فى السرد بشخوصه ومواقفه نحو حدودها القصوى. ومن موقع القارئ (الذى تحول إلى متفرج) تبدو الرواية وكأنها سلسلة من الصور الاستعراضية (والمكررة فى كثير من الأحيان) لحدود قصوى ومبالغات فكرية وثقافية وجنسية.
المسألة الأخرى التى لفتت نظرى كقارئ هى مسألة الاغتصاب والاعتداء الجنسى. فهل ثمة اسقاطات رمزية لحالات الاغتصاب التى تعرضت لها “زينة” وتعرض لها “الطليانى”، فكلاهما كان ضحية اغتصاب واعتداء جنسى. هل هناك رابط بين تمرد “زنية” وإغتصابها من قبل الأخ أو الأب، أى بين التحرر وقسوة المجتمع الأبوى؟ من السهل علينا أن نوافق على هذا الربط، وخاصة عندما يستكمله الكاتب بواقعة اخفاق زينة فى الحصول على الدرجة العلمية بسبب رفضها مقايضة نجاحها بالجنس والخصوع للمجتمع الذكورى ممثلا فى أستاذها الجامعى. أعتقد أن واقعة الاغتصاب والتحرش تبدو وكأنها مشاهد عابرة الغرض منها، فى حالة زينة، استكمال صورة الحد الأقصى الشرقى، بالضبط كما أصبح هروبها إلى باريس والارتباط بأكاديمى فرنسى يحترمها بمثابة الحد الأقصى الغربى،
فقبل الذهاب إلى هناك كانت تطهرت من كل العلاقات بعد موت أمها، وإجهاض وليدها، وطلاقها من زوجها (الطليانى) الذى عاش على حدودها الفكرية، كما عاشت هى على حدوده الشبقية. ومجددا أننا نتعامل مع مجموعة من المشاهد التى ربما تربط بينها علاقات منطقية تفتقر إلى الإبداع.ولم تكن زينة وحدها ضحية الاعتداء الجنسى، فبطل الرواية لم يسلم رغم جموحه الجنسى من جروح الذكورة. فبشكل مفاجئ نكتشف فى نهاية تعرضه لحادثة اعتداء جنسى فى طفولته أفضت إلى عنه مفاجئة مع خبر موت الأب (هذا فى حين أن زينة اكتملت أنوثتها وإنطلقت حريتها مع موت الأم). إن تذكر حادثة الاعتداء بدا وكأنه مجرد وسيلة للربط، بدون قيمة إبداعية، بين بداية الرواية حيث اعتدى الطليانى بالضرب على الشيخ العنين الذى اعتدى عليه فى صغره وبين نهايتها التى تبرز فيها حادثة الإعتداء الجنسى كمشهد للربط وتبرير المشهد الغريب فى بداية الرواية. وما بين البداية والنهاية لم يكن الطليانى معتدى أو مُعتدى عليه، ولم يكن سوى حالة شبقية مدهشة للكثير من النساء، وهن، على سبيل المفارقة، لم يكن سوى الحد الأقصى للنساء كذوات جنسية.
أعتقد أن الكاتب حاول قول الكثير عن السياسة والثقافة والجنس والدين والمجتمع والشوارع وأنواع الطعام والشراب والعادات والتقاليد. ومع ذلك فإن هذا الزخم السردى جعل من الرواية شيئا أشبه بشجرة كثيفة الأغصان، بها الكثير من المواقف والاستعراضات، ولكنها شجرة بلا ظلال، فقلما يجد القارئ ما يستظل به ألفة أو إندهاشا. فالنص لم يكن إلا متوالية سردية قد يستسيغها بعض القراء فتكون رواية، وقد لا يستسيعها آخرون فلا تكون إلا حكاية أو مجموعة من الحكايات حاول الكاتب أن يصنع منها رواية.