من الأمور الثابتة والشائعة والمعروفة ، أنّ الأخ الشقيق يختلف عن أخيه الشقيق فى الميول والمعتقدات والاهتمامات ، سواء السياسية أو الفنية أو حتى فى مجال الألعاب الرياضية. وتلك الحقيقة أكــّـدتها مدارس علم الاجتماع ، وذكر العلماء بعض الأسباب : منها ما هو مُـتعلــّـق بالتركيب الكيماوى للمخ ، الذى يختلف من إنسان لإنسان (حتى بين الأشقاء) ومنها أثر الأصدقاء والتأثر بهم فى فترة الصبا والشباب ..إلخ ، وانتهى هؤلاء العلماء إلى أنّ المجتمعات البشرية – منذ فجر التاريخ – تأسّستْ على التعددية والتنوع ، حتى داخل إطار المجتمع الواحد والبيئة الواحدة ، فى كل ما يتعلــّـق بخصوصية كل فرد.
ابتلتْ البشرية (منذ بداية تكوين المُجمتعات الإنسانية) بأخطر آفة تسبّبتْ فى الكثير من المآسى، ألا وهى آفة الأحادية. فالإنسان أحادى الفكر يعتقد دائمًا أنه على صواب مُـطلق وأنّ من يُخالفه على خطأ مُـطلق، فى حين أنّ تجربة الشعوب أثبتتْ أنه لا يوجد صواب مُـطلق وخطأ مُـطلق، وأنّ الأمر يحكمه مبدأ النسبية، بمعنى أنّ من تراه بعض الشعوب وتعتقد بصحة صوابه، قد تراه شعوب أخرى عكس ذلك، وعلى سبيل المثال فإنّ الديانة اليهودية والإسلام يُحرّمان أكل لحم الخنزير، بينما الديانة المسيحية لا ترى ذلك، رغم أنّ الأديان الثلاثة تؤمن بالنبى إبراهيم. وهذا المثال يأخذ العقل الحر إلى تأمل ظاهرة التعصب السائدة بين أبناء الديانة الإبرهيمية، فقد حارب الكاثوليك البروتستانت، وكان رد فعل البروتستانت عنيفـًا ضد الكاثوليك..إلخ. بل إنّ التعصب (وليد الأحادية) أفرز آفة أخرى هى العداء بين أصحاب الديانة الواحدة (سنة وشيعة فى الإسلام) (كاثوليك وبروتستانت وأرثوذكس فى المسيحية)
وبسبب آفة الأحادية عاشتْ أوروبا أسوأ فترات تاريخها (فترة العصور الوسطى) ولم يُبالغ المؤرخون عندما وصفوا تلك الفترة بأنّ سيطرة الكنيسة كانت تعنى (دولة داخل الدولة) ووصل الأمر لدرجة بيع صكوك الغفران. ورغم تلك السيطرة نهضتْ أوروبا، ويكمن السبب فى وجود علماء وفلاسفة تحدوا سلطة الكنيسة، صحيح دفع بعضهم الثمن غاليًا، كما حدث مع العالم والفيلسوف الإيطالى (جوردانو برونو) الذى أحرقه القساوسة (الأتقياء) يوم 21 فبراير1600 حيًا، لمجرد أنه أيّـد نظرية كوبر نيكوس وجاليليو فى علم الفلك، وأنّ الأرض مجرد كوكب فى المجموعة الشمسية.
وبعد أقل من 400سنة انتصر العلماء والفلاسفة وتراجعتْ الكنيسة لدرجة أنّ الفاتيكان قـدّم اعتذارًا رسميًا لجاليليو. وتكمن أسباب النهضة الأوروبية أنّ الفلاسفة أسّسوا ورسّخوا حقيْن هما الرافعة لتقدم الشعوب: حق الاختلاف وحق الخطأ، وأنّ الحق الثانى أهم من الأول، بناءً على قاعدة أنّ صواب اليوم قد يكون خطأ الغد والعكس صحيح، وقد استمدّ الفلاسفة هذا القانون من تطور الأبحاث العلمية، حيث أنّ (التجربة) هى التى تؤكد خطأ البحث أو صوابه. كما أنّ العالِم يُعيد النظر فى تجاربه حتى يتأكد من صحتها، ليس ذلك فقط وإنما العلماء (جيل بعد جيل) يُصحّحون نظريات من سبقوهم، كما حدث عندما أدخل أينشتاين التعديلات على نظريات نيوتن، ثمّ جاء من أدخل تعديلات على نظريات أينشتاين.. إلخ
وكما سيطرتْ آفة الأحادية على أوروبا، كذلك سيطرتْ على الدول العربية/ الإسلامية، فتمّ (قتل) الاجتهاد وتعرّض كثيرون (من المُدافعين عن الإسلام) للاضطهاد كما حدث مع الأئمة أبى حنيفة ومالك والشافعى وابن حنبل، خاصة وأنّ الأخير أصرّ على رأيه فى محنة (خلق القرآن) وقال إنه غير مخلوق، فتعرّض للحبس والجلد، ولكن رغم موقفه المبدئى، فإنه كفـّر مخالفيه الذين قالوا بخلق القرآن. ولكن الكارثة كانت فى قتل وتعذيب العديد من الفلاسفة أمثال السهروردى وعبد الحميد الكاتب وابن المقفع الذى تمّ تقطيع جسده وإلقائها فى النار وهو ينظر إليها. كما أنّ الحجاج بن يوسف الثقفى قتل معبد الجهنى لأنه قال بالقدر. وهشام بن عبد الملك قتل غيلان الدمشقى لنفس السبب، فتمّ قطع يديه ورجليه وصلبه. وبسبب آفة الأحادية يتولد التعصب، فقال سفيان الثورى ((إذا نكح المولى العربية يُـفسخ النكاح)) وكذلك قال ابن حنيل.
والمفارقة أنه بينما تخلــّـصتْ أوروبا من سيطرة الكهنوت الأحادى بفضل دور العلماء والفلاسفة، فإنّ مصر والمجتمعات العربية/ الإسلامية (رغم وجود فلاسفة دافعوا عن العقل) إلاّ أنه لم يحدث فيها أى تراكم كيفى كما حدث فى أوروبا.