اهتمت الحركة الصهيونية بالدعاية منذ نشأتها فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، وفكــّرتْ فى احتلال أوغندا وفشلتْ، ثم فكــّرتْ فى احتلال سيناء وفشلتْ، وأخيرًا تمكــّنتْ من احتلال فلسطين.
وقد تأثر عدد من الكتاب الأوروبيين بهذه الدعاية، فكتبوا يدافعون عن الحركة الصهيونية دون أنْ يهتموا بالشعب الذى سُلبتْ أرضه. ورغم ذلك فإنّ تاريخ الفكر والأدب الأوروبي، أظهر كتابًا لهم وجهة نظر مغايرة تمامًا عن الأولى . من بين هؤلاء الكتاب الروائي الأيرلندي “جيمس جويس”.
في روايته المهمة (عوليس) نتعرّف على مستر (ديزي) الذي يرجو مستر (ديدالوس) أنْ ينشر له بيانًا في الصحيفة التي يعمل بها . لماذا هذا البيان؟ لأنّ مستر (ديزي) وغيره من التجار يستشعرون الخطر من (عصابة ليفربول التى خرّبتْ مشروع ميناء جولواى) ليس ذلك فقط ، بل إنّ هذه العصابة، تـُهدّد (تجارتنا للماشية ومصير كل صناعتنا القديمة) ولكي يؤجج فيه غيرته الوطنية أضاف (إنهم سيضعون حظرًا على الماشية الأيرلندية) ثم يستعطفه قائلا (والآن أحاول اللجوء للدعاية. إنى محاصر من كل جانب بالمشاكل.. بالمكائد.. بالمناورات الخفية)
فمن هي عصابة ليفربول؟ ومن هم الذين يُهدّدون تجارة الأيرلنديين في لندن، بل ويُهدّدون إنجلترا نفسها؟
بعد حالة الذعر، يبدأ مستر (ديزى) فى الإفصاح : (رفع سبابته ملوحًا بها بطريقة عجائزية قبل أنْ يتكلم . قال (خذ بالك من كلامى يا مستر (ديدالوس) إنجلترا فى قبضة اليهود . فى كل مراكز النفوذ : مراكزها المالية وصحافتها . وهم إمارات الاضمحلال لأية أمة. أينما يتجمّعون يستنفدون طاقة الأمة الحيوية. لقد شاهدتُ ذلك يحدث فى هذه السنوات . وكتأكدى من وقوفنا هنا أقول لك إنّ التجار اليهود بدأوا عملهم التخريبى . إنّ إنجلترا العجوز تحتضر).
يعلــّـق البطل قائلا (التاجر هو الذى يشترى رخيصًا ويبيع غاليًا . يهودى كان أو ذمى) فيرد مستر (ديزى) بحزم (لقد كفروا بالنور. ويمكنك أنْ ترى الظلام فى عيونهم . ولهذا فهم مـُشرّدون فى الأرض حتى يومنا هذا).
وعلى درجات بورصة باريس ، وصفهم جيمس جويس قائلا (رجال ببشرة ذهبية. يحسبون الأسعار على أصابعهم المرصّعة بالجواهر. ثرثرة الأوز. احتشدوا حول المعبد في جلبة فظة ورؤوسهم تزخر بالمؤامرات. يُدركون أنّ الضغائن تتكتل حولهم . ويُدركون أنّ حماستهم عبث ، صبر عقيم للكنز والتكديس . سيبعثره الزمان كله بكل تأكيد . كنز مكتنز على قارعة الطريق : يُسلب ويُبعثر. عرفتْ عيونهم سنوات التشرد . وبصبر تحمّلوا مخازى جنسهم).
في نهاية اللقاء، وبعد أنْ همّ مستر (ديزي) بالانصراف يتوقف ليقول للبطل (أردتُ فقط أنْ أقول لك هذا : إنّ أيرلندا ، كما يقولون ، لها الشرف أنْ تكون البلد الوحيد الذى لم يضطهد اليهود . ألا تعرف ذلك؟) وعندما سأله مستفسرًا ، قال مستر (ديزى) لأنها (لم تسمح لهم بدخولها أبدًا. قال لك بافتخار) وظلّ يردد جملته وهو يبتعد (لأنها لم تسمح لهم بدخولها أبدًا).
كتب جيمس جويس هذه الرواية فى أوائل القرن العشرين ، أى قبل إحتلال اليهود لفلسطين والضفة والقدس وسيناء والجولان ، وقبل غزو جنوب لبنان وضرب المفاعل الذرى العراقى ، وقبل فرض كلمتهم على المنطقة بأكثر من خمسين عامًا . فإذا قارنــّا ما كتبه جويس فى رواية (عوليس) بما حدث على أرض الواقع ، تكون أمامنا صورتان : الأولى لروائى أوروبى ، لم يحتل اليهود وطنه ، ومع ذلك وصفهم بأنهم (عصابة) وأنهم (إمارات الاضمحلال لأية أمة ، وأينما يتجمّعون يستنفدون طاقة الأمة الحيوية) ليس ذلك فقط وإنما هم أيضًا (بدأوا عملهم التخريبي) وفى لهجة ساخرة دالة كتب (إنّ أيرلندا لم تسمح لهم بدخولها أبدًا)
والصورة المقابلة هى ما حدث من تطبيق للمخطط الصهيونى على أرض الشعب الفلسطينى ، وتهديد باقى دول المنطقة. فهل يكمن سبب المفارقة فى أنّ أوروبا أخرجت مفكرين ومبدعين انتبهوا للمخطط الصهيونى مبكرًا ، واستشعروا خطر هذا المخطط وهو جنين فى أحشاء الآباء الأول للصهيونية ، بينما الدول التى كانت مستهدفة لإحتلال أراضيها ، ونهب ثروات شعوبها ، لم تـُخرج مفكرين أو مبدعين على مستوى المفكرين والمبدعين الأوروبيين ، فيما يتعلّق بالمشروع الصهيونى ، الذى يستهدف تحقيق الحلم التوراتى؟
مجرد سؤال . وأيًا كانت الإجابة ، فإننى أعتقد أنّ ما قاله الفيلسوف الألمانى (نيتشه) لشعبه مازال صالحًا وقابلا لترديده اليوم وكل يوم . بل وطوال ساعات اليوم. ومن واجب كل مفكر وكل مبدع حر، أنْ يقتبسه ويوجهه إلى شعبه ، كما فعل نيتشه الذى قال يخاطب قومه (عليكم أنْ تستشعروا الخطر دائمًا ، حتى تتقدموا ولا تتخلفوا).