(6) اهتم الفنانون التشكيليون من مختلف الأجناس، وربما من مختلف الأديان أيضًا، برسم وتصوير السيدة العذراء في صورة ملكة ترتدي التاج، فالفن القبطي على سبيل المثال يتميز بأنه فن “الهالة والتاج”، ولقد رسمها الفنان المصري بملامح مصرية وكأنها سيدة مصرية من ريف مصر، والفنان الإثيوبي رسمها بملامح إثيوبية والفنان الهندي رسمها بملامح هندية والفنان الإيطالي رسمها بملامح إيطالية وهكذا فعل باقي الفنانين.
وفي معظم أيقونات السيدة العذراء تبدو السيدة وهي تحمل الطفل يسوع المسيح على يدها اليسرى لتظهر العذراء على يمين السيد المسيح، لأنه “جلست الملكة على يمين الملك”، فالملك هو السيد المسيح والملكة هي السيدة العذراء في الفكر المسيحي.
(7) ربما من أغرب الأيقونات الخاصة بالسيدة العذراء: أيقونة العذراء المرضعة وفيها يبدو الطفل يسوع يرضع من ثدي العذراء، في تعبير عن تجسد كامل وأمومة كاملة، فهناك رسم جداري لهذا المنظر على عمود بدير السيدة العذراء بوادي النطرون المعروف باسم (السريان)، جهة اليمين من هيكل الكنيسة الرئيسية بالدير، وكذلك هناك أيقونة لها بدير الملاك ميخائيل القبلي بمصر القديمة في الجهة البحرية من الكنيسة، بالإضافة إلى عدد آخر من الأيقونات في بعض الكنائس والأديرة. واللافت للنظر أن مصر القديمة عرفت تمثالًا لإيزيس ترِضع حورس. قد يعود الأمر إلى استمرار الفنون وتواصلها وتشابهها أحيانًا، وقد يكون تأثر الفنان المصري بآبائه وأجداده..
(8) توقفت كثيرًا أمام أيقونة أثرية بكنيسة السيدة العذراء الأثرية بمسطرد- شبرا الخيمة في الجهة البحرية من الكنيسة، فالأيقونة تصور العائلة المقدسة، القديسة مريم العذراء تمتطي ظهر حمار وهي تحمل الطفل يسوع ويبدو ماشيًا الشيخ يوسف النجار، وخلف العائلة المقدسة- وبشكل واضح- جامع له مئذنة، ومن المعروف أن العائلة المقدسة جاءت مصر قبل دخول الإسلام بنحو ستة قرون!!
سألت مهندس الترميم والذي قابلته صدفة في تسعينيات القرن العشرين أثناء ترميم الكنيسة عن هذه الأيقونة، فقال أنها ترجع إلى القرن الخامس عشر أو السادس عشر الميلادي، ولم تكن مصر قد عرفت الإسلام بعد، ولكن الفنان رسمها بروح العصر الذي يعيشه.. في ظني أنها عبقرية الفنان وتسامح الفن.
(9) اهتم الفنانون بتصوير رحلة هروب العائلة المقدسة إلى مصر وإقامتها في بلادنا طلبًا للسلام، حيث استمرت الرحلة أكثر من ثلاث سنوات، وهم يرسمون أفراد العائلة المقدسة وخلفهم أحد معالم مصر الجغرافية مثل نهر النيل الممتد بطول البلاد، والذي عبرته العائلة المقدسة ربما أكثر من مرة وأقامت بجواره أحيانًا، كما يرسمون الأهرامات الثلاثة بالجيزة، التي ربما تكون العائلة المقدسة قد شاهدتها لكنها لم تقم بجوارها، فضلًا عن وجود حقول الزرع وأشجار النخيل في تلك الصور.. قد يكون هو الارتباط الوطني والديني عند الفنان المصري.
(10) “المولد” فكرة أصيلة في الثقافة الشعبية المصرية، ربما منذ أيام المصريين القدماء، وروافد أخرى، مما جعل الظاهرة تستمر في الثقافتين المسيحية والإسلامية، وللسيدة العذراء العديد من الاحتفالات الكنسية التي تأخذ طابعًا شعبيًا إلى جانب الاحتفال الكنسي، ربما من أشهرها احتفالات كنيسة السيدة العذراء الأثرية بمسطرد شبرا الخيمة، وديرها بجبل الطير بالمنيا، ودير المحرق بالقوصية أسيوط، وديرها في درنكا أسيوط.. وهي احتفالات يحضرها المسيحيون بشغف ويشاركهم بعض المسلمين أيضًا.
أعرف أن كثيرين يرفضون مصطلح المولد، خاصة مع ما يحدث به من ممارسات غير لائقة تم منعها بجهود الراحل البابا شنودة الثالث، لكنها الثقافة الشعبية التي تفرض نفسها أحيانًا، وإن كانت تحتاج إلى تهذيب، وبالمناسبة هناك أسر ترفض الذهاب إلى المصيف، فمصيفها هو زيارة أحد “موالد” السيدة العذراء وشراء “الحمص والحلاوة” وإهدائه لأصدقائهم المسيحيين والمسلمين.
(11) في الاحتفالات الشعبية، “المولد”، يهتم الزائرون- بعد زيارة الكنيسة وأخذ بركتها- بشراء الحمص والحلاوة وإهدائه للجيران والأصدقاء والأقارب، والبعض يفضل الجلوس على المقاهي والكازينوهات التي تنتشر في فترة “المولد”، ويحرص الأطفال على شراء الألعاب، كما يحرص البعض على “دق” الصليب على بطن اليد (وبالتحديد المعصم) ورسم صور أخرى منها المسيح مصلوبًا وصورة السيدة العذراء تحمل الطفل يسوع وصورة الشهيد مار جرجس أحد أبرز قديسي المسيحية في الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية على مستوى العالم. ويمارس البعض الألعاب الشعبية مثل “ركوب المراجيح” و”إطلاق النشان على البمب”.. الخ، بينما تهتم بعض الأسر بنوال أبنائهم وبناتهم سر المعمودية داخل تلك الكنائس الأثرية. ويظل “المولد” يداعب خيال كثيرين ينتظرونه من العام للعام.
(12) في ظني أن الكنائس التي تحمل اسم السيدة مريم العذراء في مصر تحتل المرتبة الأولى بين مسميات الكنائس، ويأتي ذلك انعكاسًا لحب المواطنين الأقباط للسيدة العذراء وتقديرهم لمكانتها وتشفعهم الدائم بها. ومن بين أشهر كنائس العذراء التي تحمل اسمها منفردًا: كنيستها في مسطرد- الزيتون- المعادي- مسرة- روض الفرج- الفجالة- مهمشة- مصر القديمة (الدمشيرية)- حارة الروم- جبل الطير بالمنيا- الأقصر..، ومن الكنائس الحديثة: كنيستها في: الجولف- مدينة نصر. وهناك كنائس وأديرة تحمل اسم السيدة العذراء إلى جانب قديس آخر أو قديسة أخرى، مثل كنيسة السيدة مريم العذراء والقديسة دميانة بمصر القديمة والشهيرة باسم (الكنيسة المعلقة)، والعذراء ومار جرجس وأبو سيفين بحارة زويلة، ودير العذراء وأبي سيفين والأنبا أبرآم بالفيوم ودير العذراء والقديسة دميانة في بياض بني سويف. هذا فضلًا عن أديرتها العامرة بالرهبان في وادي النطرون (السريان- البرموس)، وفي الصعيد: المحرق ودرونكا وبعض أديرة أخميم، وأديرتها العامرة بالراهبات مثل ديرها في حارة زويلة حيث القاهرة الفاطمية، وديرها في مصر القديمة بين السبع كنائس.
[email protected]