عندما يصل عدد المتسربين من التعليم في مصر إلى اثنين مليون طالب فنحن نواجه أزمة حقيقية لا يمكن تجاهلها أو التغاضي عنها ، وعندما يفضل أولياء الأمور تشغيل أبنائهم وتسريبهم من التعليم لمساعدتهم في نفقات المعيشة ، وعندما لا يقدر بعضهم قيمة التعليم وأهميته للطفل فهنا تكون الدولة هى المسئولة عن تعليم الأطفال وعن إلزام تلك الأسر بتعليم أولادها..
ولكي نعرف جذور الأزمة الحالية لابد أن نعود إلى حقبة حكم الرئيس الراحل السادات والذي قام بإلغاء أحد قوانين التعليم الإلزامى الذي أصدره الرئيس جمال عبد الناصر، ونص فيه على أن يُسجن ولى الأمر الذى لا يبلغ المنطقة التعليمية التابع لها بوصول ابنه أو ابنته لسن الالتحاق بالمدارس، وفى حالة تخلف هؤلاء الأطفال عن الدراسة كانت تذهب لجنة من مدير المدرسة ووكيلها وإحدى المشرفات لحث رب الأسرة على تعليم أبنائه في محاولة لإقناع تلك الأسر بقيمة التعليم .
إن الأزمة الكبرى التي يواجهها المجتمع المصري اليوم هي نتاج تراكمي لتسرب اعداد هائلة من الطلاب بمختلف المراحل التعليمية من التعليم طيلة السنوات الماضية ، هذه القنبلة الموقوته فجرت لنا مشكلات البطالة والجهل وارتفاع نسبة الأمية والزواج المبكر وغيرها من قضايا العنف والإرهاب ..
وفي إطار التعامل مع الأزمة الراهنة التي تحتاج لتدخل سريع لمنع تفاقمها ، عقد الدكتور محمود أبوالنصروزير التربية والتعليم اتفاقية بتمويل «فرنسى» لإعادة «المتسرب» إلى التعليم بأجر يومى ، حيث وجد أن السبب الرئيس وراء تسرب التلاميذ من التعليم هو حاجتهم للعمل للإنفاق على أسرهم ، وتسعى هذه الخطة الجديدة لإعادة مليونى طالب من سن 8 إلى 12 عاماً للدراسة بأجر يومى، بشرط أن يكون لديهم النية للتأهيل الدراسى بدلاً من أن يحصلوا على الأجر اليومى فى أعمال أخرى «غالبيتها فى الشارع » قد تعرض حياتهم للخطر وتجعلهم عرضه للإنحراف وتعاطي المخدرات والإدمان فيما بعد.
وفي إطار هذه الإتفاقية الجديدة سيحصل أي طالب يتأهل من المتسربين على شهادة ، حسب عمره، أما الطالب الذى يفشل فى التأهيل فستتولى الوزارة تعليمه «حرفة» يستفيد بها فى حياته الشخصية..
وبهذه الطريقة سوف يتفادى المجتمع المصري أزمات عديدة خلال السنوات المقبلة ، لا أدري لماذا تأخرت هذه المقترحات والخطط التعليمية البناءه طوال العقود الماضية ؟ ولماذا لم يأتي وزير للتعليم من قبل لإقتراح هذه المباردة وتفعيلها بشكل بناء ؟ فهناك أطفال يتكبدون عناءا شديدا نتيجة سكنهم في بعض القرى البعيدة عن المدارس ، والذين تتكدس فصولهم بأعداد كبيرة من الطلاب قد تصل إلى 120 طالب داخل الفصل الواحد ، مما لا يوفر الفرصة للطالب للفهم والإستيعاب الجيد ، وهذا بدوره يشكل أزمة جديدة وهي عدم قدرة الطالب على الإستفادة من المدرسة ، وبالتالي يلجأ بعض الطلاب إلى القفز من أعلى أسوار المدارس والهروب منها خلال اليوم الدراسي بحجة أنه يذهب للمدرسة لإضاعة الوقت دون تحقيق هدفه.
وبهذا يصبح الطلاب فريسة سهلة لأساتذة الدروس الخصوصية الذين لا يبذلون جهدا داخل المدارس بحجة زيادة أعداد الطلاب وعدم وجود الوقت المتاح لشرح وتبسيط المادة العلمية وإجراء الإمتحانات والتدريبات العملية للطلاب.
ويعاني التعليم أيضا من ضعف المناهج التي تحتاج إلى تطوير لتلائم متطلبات العصر والتكنولوجيا الحديثة، ونقص الأدوات المعملية والمختبرات العلمية والتجهيزات الأساسية بمعظم محافظات الجمهورية.
كما تحتاج أساليب التعليم داخل المدارس إلى تطوير ، ورغم الخطة التي سعت الوزارة لتطبيقها خلال السنوات الماضية لتطوير آداء المدرسين من خلال إمتحان الكادر كشرط لترقية المدرسين والموجهين … لم يخرج لنا هذا النظام ما نتمناه من آداء مرتفع للمدرسين داخل الفصول التعليمية وكان الأجدر من آدائهم لإمتحان نظري داخل قاعة امتحان ، هو إعطائهم دورات تدريبية تعلمهم مهارات الإتصال ومهارات التعامل مع الطلاب وكيفية عرض المعلومات بوسائل ايضاح تحمل جانبا عمليا وتطبيقيا يساعد الطالب على فهم المعلومات وتذكرها بشكل أسرع من مجرد الكلام الشفهي والنظري .
ماذا استفاد الطالب من نجاح المدرسين بعد آدائهم امتحانات الترقية ؟ وهل استطاع المعلم تطوير نفسه بحفظ بعض الكتب والمذكرات وكتابتهم على ورقة الإمتحان ؟ هل هذا هو المستوى العلمي الرفيع الذي نرجوه من المدرس ؟ ما ذنب هؤلاء الطلاب الذين يرغبون في التعليم ولم توفر لهم ظروف الحياه الدراسة في مدارس خاصة ؟ وماذا يفعل طلاب المدارس الحكومية الذين هم مضطرون للجوء للتعليم المجاني على نفقة الدولة ؟ وإذا كانت الحكومة غير قادرة على توفير فرص جيدة للتعليم الأساسي لتأهيل الطالب فيما بعد لدخول الجامعه ومن ثم سوق العمل ، فماذا يفعل الطالب وإلى متى ينتظر ؟
إن تدهور منظومة التعليم في المجتمع المصري طيلة العقود الماضية أنتج لنا أجيالا مشوهه فكريا ومعقدة نفسيا من أسلوب التدريس الخاطيء الذي يلغي العقل ويعتمد على الحفظ والتلقين ويمنع النقاش والحوار وتبادل وجهات النظر في مختلف الموضوعات داخل الفصل الدراسي.
فهناك بعض المعلمين لا يحترمون الطفل ولا يتعاملون معه بقدر من الحب والحنان بل يلجأون للإنفعال والصوت المرتفع ، وهناك من يعاقب الطفل بقسوة، مما يولِّد الخوف داخله من الذهاب للمدرسة ، ولازلنا حتى يومنا هذا نعاني من تسلط بعض المعلمين وسوء معاملتهم للطلاب مما يدفعهم إلى كراهية التعليم أو اصابتهم ببعض العقد النفسية لمواد دراسية أو تخصصات بعينها .
نحتاج للإصلاح شامل في البنية التعليمية ليس فقط على مستوى التكاليف المادية من حيث انشاء مدارس جديدة وتخفيض كثافة الفصول ومساعدة الطلاب الفقراء غير القادرين على التعليم ، ولكن أيضا في استعادة الثقة والإحترام المتبادل بين الطالب والمدرس ، وتوجيه المدرس بأنه القدوة أمام طلابه ومتابعة آدائه داخل الفصل من خلال قيام الموجهين والمتابعين من الوزرارة بالتفتيش المفاجيء على المدارس ودخول الفصل وتوجيه الأسئلة للطلاب لقياس مستوى آدائهم التعليمي وتسجيل الملاحظات عن أسلوب عمل كل منهم وإطلاع مدير المدرسة على تقريرالمتابعة حتى يتسنى لنا إنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن يسقط طلابنا إلى حافة الهاوية .