كما توجد استثمارات فى التنمية، فإن التخلف أيضا له استثماراته، ولعل المجتمع كان أحد المجتمعات التى شهدت أكبر صفقات لصناعة التخلف على مدى زمنى قد تزيد على النصف قرن.وأعنى باستثمارات التخلف تلك الأموال والجهود التى تم تخصيصها بشكل مباشر أوغير مباشر لنشر ثقافة وقيم معادية للتفكير النقدى والقيم المدنية ومبادئ الحرية والمساواة، وبمعنى آخر فهى تلك الاستثمارات المعنية بصنا
فمن ناحية أولى، تعمل استثمارات التخلف ضمن مجال واسع فهى لا تنشط فقط فى المجال الاجتماعى خارج سياق الدولة، بل على العكس فإن ارتباطها بالعديد من المؤسسات التربوية والدينية والإعلامية أعطاها قوة وزخما. فمن المعروف للجميع أن العقود الماضية شهدت تدهورا دراميا للمؤسسات التعليمية بداية من التعليم الأساسى والمدرسة التى هى أساس تنشئة المواطن،وإمتدت عدوى التخلف إلى التعليم الجامعى وحتى التعليم العالى. وعلى الرغم من أن تدهور هذه المؤسسات جاء بشكل عشوائى إلا أن بنية المصالح التى ارتبطت بالتدهور أضفت عليه طابعا منهجيا ومؤسساتيا. وبالمثل فقد تم انفاق أموال طائلة على إنتاج خطاب دينى متحجر وعدائى. فقد ساهمت رؤوس أموال معلومة أو خفية استفادت من غياب الدولة أو انتهازيتها لنشر تأويلات وأفكار دينية تحض على كافة أشكال التعصب ومحاربة القيم المدنية.
ومن ناحية ثانية، تتميز استثمارات التخلف بقدرة فائقة على التوسع والانتشار، فما تنتجه من بضاعة فى سوق الثقافة والقيم أشبه بالمنتجات الصينية التى تغزو الأسواق وتغازل مستهلكين باتوا متآلفين مع كل ما هو رخيص ومنحط. ويكفى الإشارة إلى الرواج السريع لأسوأ أنواع الخطابات الإعلامية والفنية والدينية، أو حتى من خلال وسائل الإعلام الاجتماعى، فالجزء الأكبر مما يتم تداوله يتسم بالرداءة سواء على مستوى الشكل او المضمون. ولا يعنى هذا عدم وجود استثمارات إيجابية لإنتاج لغة وخطابات وأعمال فنية وإبداعية ذات قيمة، فهذا النوع من الاستثمارات موجود دائما. ولكن مشكلة هذا النوع من الاستثمارات أن الجانب الأكبر منه مخصص بالأساس لمواجهة آثار استثمارات التخلف، فهى أشبه بجرافات مهمتها إزالة قمامة ثقافية وقيمية وليس بناء وتأسيس مجال ثقافى حر.
ومن ناحية ثالثة، فإن استثمارات التخلف ذات علاقة مركبة بنظام السلطة والاقتصاد. إن وجود رعية متخلفة ورافضة للقيم المدنية، بالمعنى العام والبسيط، يشكل ضمانة لمن يمتلكون زمام السلطة على مستواياتها المختلفة. والأمر لا يتعلق فقط بالسلطة السياسية، لأن استثمارات التخلف معنية بالأساس بخدمة السلطة الأبوية وتدعيمها داخل الأسرة ومجال العمل وانتهاء بالدولة. أما على الصعيد الاقتصادى فمن المعروف أن تدمير أنظمة التعليم بالذات هو السبيل لخلق جيوش من العمالة الرخيصة أو غير المؤهلة، وربما يكون هذا هوأحدى ركائز الاقتصاد السياسى للتخلف أى الإبقاء على فائض عمالة لفائدة أصحاب رؤوس الأموال، ولتلبية احتياجات سوق عمل خدمى غير منتج.
وللأسف فإن كفة الاستثمار فى التخلف أرجح بكثير من كفة الاستثمار فى الإرتقاء الثقافى والاجتماعى بسبب ارتباط التخلف ببنية مصالح اقتصادية وسياسية، وقدرته على الإنتشار وإعادة انتاج ذاته بصورة آلية. والأمر الخطير فى فى هذا النوع من الاستثمار هى قدرته على استنزاف الطاقة الإيجابية لدى المجموعات والقوى التى تسعى إلى تحرير المجتمع والعقول. ولذا، فقد لا يكون مواجهة التخلف كمنتج هو القضية، وإنما العمل على مواجهة استثماراته، وهى عملية معقدة، لأنها لا تعنى مجرد مواجهات ثقافية، بل إصلاحات اقتصادية وسياسية كذلك.