إذا كان التعريف العلمى للأحادية يعنى الإنحياز لفكرة ما أو عقيدة ما ، فإنها (الأحادية) تنقلب إلى تعصب فى حالة رفض وإقصاء آراء ومعتقدات المختلفين . وعصور الظلمات العربية والعبرية وكذلك الأوروبية كان أهم أسبابها الأحادية التى أخرجتْ أسوأ ما فى الإنسان (التعصب) ولم تكن محاكم التفتيش فى ضمائر البشر هى الجريمة الوحيدة ، وإنما انقسام الدين الواحد إلى مذاهب (كاثوليك ، أرثوذوكس، بروتستانت فى المسيحية. سنة ، شيعة فى الإسلام) هذا بخلاف الفرق المُـتشعبة عن المذاهب. ناهيك عن البهائيين المرفوضين والملعونين من كل المذاهب الإسلامية ، وكل ذلك بسبب الفكر الأحادى الرافض لمبدأ حق الاختلاف .
وإذا قفزنا إلى عصرنا أخبرنا الحاضر البائس ، أنّ التعصب أشعل الحروب وأسال دماء الأبرياء لأنّ السادة الأحاديين يتمنون عودة البشر إلى كهوف الماضى ، فى رفض صريح للحداثة والعصرنة. أو ليستْ مرجعية الأحادية هى التى جعلتْ خيرت الشاطر يقول ((إنّ الجماعة تستعد للحكومة الإسلامية.. بهدف الوصول إلى مرحلة سيادة العالم)) (المصرى اليوم 23إبريل 2011) وقال أيضًا ((المرجعية الإسلامية أساس لنهضة مصر)) (الشروق المصرية 28إبريل 2011) ألا تعنى (سيادة العالم) السيطرة والاستعلاء والاحتلال ؟ وألا تعنى (المرجعية الإسلامية) خضوع المسيحيين لسيطرة الإسلاميين ؟ وقال الإخوانى صبحى صالح إنّ (الإخوان المسلمين لا يقبلون أنْ يشغل منصب رئيس الدولة مسيحى أو امرأة) (المصرى اليوم 24/4/2011) أليستْ الأحادية هى سبب إقصاء المسيحيين والمرأة حتى المسلمة ؟ أما المُتخلص من الأحادية فرفع شعار(إرفع راسك فوق إنت مصرى) وشعار(مدنية.. مدنية.. لا دينية ولا عسكرية) بينما الأصوليون رفعوا شعار(إسلامية.. إسلامية) ؟
وإذا تأملنا تاريخ اليهود المصريين ، نجد أنّ موقفهم مُختلف تمامًا عن حياتهم فى أوروبا ، فهم ذابوا فى المجتمع وساهموا فى الاقتصاد المصرى إلى أنْ ضيّق عبد الناصرعليهم الخناق فخسرتهم مصر التى عاش فيها كل جنس وكل دين . وعن اليهود فى مصركتب أ. محمد حسن خليفة ((فى الحديث عن حارة اليهود فى القاهرة أو بعض المدن المصرية لم يهتم الباحثون بتوضيح الفارق بين الجيتو الأوروبى والحى اليهودى أو الحارة اليهودية فى المدن المصرية من حيث : أولا أنها لم تكن حارة مغلقة على أهلها تـُحيط بها أسوار تمنع من الدخول أو الخروج من وإلى المجتمع الكبير. كما أنها فى كثير من الأحيان لم تكن حارة يهودية خالصة بل عاش فيها مسلمون ومسيحيون بجوار اليهود . والأهم أنّ الرغبة فى العزلة لم تكن متوفرة فى اليهودى المصرى، فنجده يعيش فى أحياء خارج الحارة اليهودية. ولم يكن مُلزمًا بالحياة داخل هذه الحارة. إنّ تاريخ يهود مصر ليس تاريخ حارات يهودية بل هو تاريخ جماعة مصرية دينها اليهودية ومندمجة فى المجتمع المسلم والمسيحى ومختلطة به وليست منعزلة عنه)) (من تقديمه لكتاب “تاريخ يهود مصرفى الفترة العثمانية ” – مجموعة دراسات – ترجمة جمال أحمد الرفاعى ، أحمد عبداللطيف حماد – المجلس الأعلى للثقافة- عدد 199عام2000- ص21، 22) وكتب المُترجمان ((إنّ هذا العمل يؤكد أنّ يهود مصر كانوا جزءًا لا يتجزأ من نسيج المجتمع المصرى : يتفاعلون معه ويؤثرون فيه ويتأثرون به. وعلاوة على اندماج اليهود الاقتصادى والاجتماعى فى مجتمعهم ، فقد شارك بعض اليهود فى الحركة الوطنية المصرية المُناهضة للاحتلال البريطانى ، بل وشكلوا بعض المُنظمات المُناهضة لنشر الفكرالصهيونى فى مصر. إنّ الطائقة اليهودية المصرية كانت جزءًا لا يتجزأ من نسيج المجتمع المصرى والتى رحل معظم أبنائها عن مصرخلال عقد الخمسينات من القرن العشرين)) (ص25) ومن المعلومات التى محل إجماع بين المؤرخين أنه فى أوائل القرن 18كان يهود مصر(خاصة يهود القاهرة) يتقلدون أهم المناصب فى سك العملة والصرافة والجمارك (ص598) وكتب إدوارلين عن وضع اليهود فى عهد محمد على ((لم يتمتع اليهود بالتسامح الدينى فقط بل إنهم عاشوا فى ظل سلطة أقل استبدادًا من أى دولة أخرى فى الامبراطورية التركية)) (ص522)
وفى عهد الخديوإسماعيل تم تعيين واصف باشا عزمى رئيسًا لديوان الخديوالذى قال فى خطاب عن مجلس شورى النواب ((فتحنا الباب للمسلمين والأقباط (يقصد المسيحيين) دون تمييز)) وقال عضومجلس النواب محمد الشواربى إنّ الأقباط أبناء الوطن لذا يجب أنْ يكونوا ضمن المدارس التى تعمل بالمديريات)) ولأنّ المصرى فى ذاك الوقت لم تـُصبه آفة التعصب ، لذا بنى مرقص بك يوسف مسجدًا فى طنطا عام 1865ونفس الشىء فعله قلينى باشا فى المنيا . وفى شهادة أحد الباحثين الإنجليز(مسترسايس) ذكرأنه عاصربناء كنائس بناها مسلمون وبناء مساجد بناها مسيحيون. ورأى التلاميذ المسلمين فى مدارس المسيحيين العلمانية. والتلاميذ المسيحيين فى مدارس المسلمين . وفى انتخابات عام 1870كان المسلمون يعطون أصواتهم للمسيحيين (المعلم فرج عمدة ديرمواس من نواب أسيوط) وحنا أفندى يوسف (من نواب المنيا وبنى مزار) وفى انتخابات عام 1876أعطى المسلمون أصواتهم للمرة الثانية للنائب حنا يوسف وكذلك لكل من ميخائيل فرج وعبدالشهيد بطرس (البلينا – جرجا) أما الدليل الدامغ على أنّ ثقافتنا القومية المصرية كانت ضد الأحادية ، فهوأنْ يكون رئيس مجلس النواب مسيحيًا (ويصا واصف) وبالانتخاب الحر، ويكون نقيب المحامين مسيحيًا (مرقص حنا – لعدة دورات) ويكون المسيحى الشهيرمكرم عبيد سكرتيرعام حزب الوفد (المصادركثيرة أيسرها منالا لمن يود كتاب”الأقباط والقومية العربية”- أبوسيف يوسف – مكتبة الأسرة عام 2006- أكثرمن صفحة) أما بعد أنْ سيطرالضباط على الحكم عام 52 بالتوازى مع طغيان اللغة الدينية ، فلم ينجح مسيحى واحد فى انتخابات عام57ثم لجأ عبدالناصر لآلية غلق دوائر معينة للمسيحيين ليضمن نجاح من يؤيدون سياسته الديكتاتورية. فهل يمكن فى ظل تحالف العسكروت والكهنوت أنْ يكون رئيس مجلس الشعب مسيحيًا ؟
وفى واقعة دالة على البُعد الإنسانى فى ثقافتنا القومية ذكرالمرحوم بيومى قنديل فى كتابه (حاضرالثقافة فى مصر) أنّ زميلته الفلسطينية التى عملتْ معه فى صحيفة الأخبارحكتْ له أنّ قريتها تعرّضتْ للهجوم عام 56وكان من حُسن حظ أسرتها أنّ الجنود الإسرائيليين الذين دخلوا منزلها كانوا من المصريين اليهود ، لذلك لم يلمسوا شعرة من أحد أفراد الأسرة ولم يتعرّضوا لأثاث البيت ، بل عندما قامت جدتها للنهوض قال لها أحد الجنود بلغته المصرية التى لاتـُخطئها أذن فى المنطقة ((ماتقوميش يا أمى.. خليكى قاعده)) وعندما خرجوا حرصوا على وضع علامة على جدارالبيت تدل على أنه تم التفتيش ، بينما شاء سوء حظ بعض الأسر أنْ يكون الجنود الإسرائيليون من العراقيين اليهود الذين بدّدوا أثاث البيت وأصابوا الأسر بالذعر. ولم يضعوا علامة تدل على التفتيش. ومغزى هذه الواقعة أنّ الديانة واحدة ومع ذلك اختلف التصرف نظرًا لاختلاف الثقافة القومية.
هل التعصب صفة لصيقة بشعبنا أم أنّ المد الأصولى المؤسس على الأحادية صوّب مدفعيته على أبناء أمتنا المصرية ؟ لنستمع إلى المؤرخ الراحل د. رؤوف عباس وهويحكى عن مصرقبل يوليو52إذْ ذكر أنه عاش طفولته فى شارع الترعة البولاقية بشبرا. وفى فناء الكنيسة كان الأطفال المسلمون والمسيحيون يلعبون. وأنه وهو(المسلم) تناول لقمة القربان من يد (أبونا) وأنه ظلّ لمدة 8 سنوات يقول لجارته (أم جرجس) يا عمتى بالمعنى المادى لا المجازى ، لأنّ أم جرجس كانت تقول لجدته (يا أمى) وتقول لوالده (يا أخويا) فاعتقد أنها شقيقة والده (= عمته) خاصة أنّ (أبو جرجس) كان ينادى الجدة (يا حماتى) ووصلتْ التعددية (نقيض الأحادية) لدرجة أنّ النسوة المسلمات والمسيحيات تبادلن إرضاع أطفال بعضهن البعض ورعايتهم إذا اضطرت احداهن للسفرأوالعمل (مشيناها خطى- كتاب الهلال- ديسمبر2004ص22) وهل التعصب صفة شعب يقول فى أمثاله ((سيب الملك للمالك)) وأيضًا ((ما تبقاش حنبلى)) فى رفض صريح للأحادية؟ هذه هى روح التعددية لدى شعبنا ، ربما عليها بعض الصدأ بسبب المد الأصولى الذى يجب مقاومته فكريًا ، بينما الأحادية هى التى جعلتْ د. أحمد عمرهاشم أنْ يكتب ((الإسلام لايمنع التعامل مع غيرالمسلمين ، ولكن يمنع المودة القلبية والموالاة ، لأنّ المودة القلبية لاتكون إلاّبين المسلم وأخيه المسلم)) (اللواء الإسلامى- عدد 153)