كان من حـُـسن حظ مصر فى العصر الحديث وجود شخصية عالم المصريات الكبير د. سليم حسن (1893-1961) ومن حـُـسن حظ سليم حسن أنّ أحمد شفيق باشا (عندما كان وزيرًا للأشغال) تبنى رعايته فعيـّـنه بالمتحف المصرى ، وفى المتحف تعرّف على العالم الروسى (جولنشيف) المُهتم بالآثار المصرية ، فتتلمذ على يديه. وفى عام 1922سافر سليم حسن إلى أوروبا للاحتفال بشامبليون ، فزار فرنسا وألمانيا ، وفى عام 1925 وبضغط من أحمد شفيق باشا ذهب سليم حسن فى بعثة لأوروبا لدراسة علم الآثار (مع آخرين) فالتحق بقسم الدراسات العليا بالسوربون ، وحصل على دبلوم الدراسات الشرقية واللغة المصرية القديمة ، ودبلوم آخر من اللوفر، ثم حصل على دبلوم من جامعة السوربون عن اللغة المصرية القديمة. وعندما عاد إلى القاهرة تم تعيينه مساعد أمين المتحف المصرى ، كما عمل أستاذاً بجامعة القاهرة ، واشترك مع عالم الآثار النمساوى (يونكر) فى أعمال الحفر والتنقيب بالهرم ، ثم سافر إلى النمسا وهناك حصل على الدكتوراه فى علم الآثار من جامعة فينا.
ولأنّ سليم حسن أجاد اللغة المصرية القديمة ، لذلك تمكــّـن من ترجمة البرديات والكتابات المنقوشة على الجداريات ، ومن بين تلك الترجمات ترجمته لنصوص الأناشيد التى أخذتْ اسم (متون الأهرام) ومن بين تلك النصوص النص التالى :
إنّ من يطير يطير.. وهكذا يطير الملك أيضًا بعيدًا عنكم يا أيها الناس..
إنه ليس من أهل الأرض.. بل هو من أهل السماء..
وأنت يا إله مدينته.. اجعل (كا) الملك (كا = الروح) بجوارك..
إنّ الملك قد طار إلى السماء فى صورة سحابة مثل طائر الواق..
إنّ الملك قد قبـّــل السماء كصقر..
إنّ الملك وصل إلى السماء كجرادة))
وفى الهامش الذى كتبه سليم حسن أنّ التعبير الأخير لم يُـعجب كاتب آخر (من الذين أدخلوا بعض الاضافات على متون الأهرام) فكتب فى متون أهرام الملك (بيبى) بدل كلمة الجرادة ((حور- آختى إله الشمس)) وكان من رأى سليم حسن أنّ التعبير الأول أدق ، لأن ّكاتب الجدارية الأولى أراد أنْ يـُـشبـّـه الملك فى ارتفاعه إلى السماء بالصقر الذى يحلق عاليـًـا كأنه يقبل السماء ، ثم بالجرادة التى تطير منخفضة بالقرب من سطح الأرض ، وبذلك يكون الملك مرتفعًـا كالصقر الذى يُـمثــّــل إله الشمس ، ويُـرفرف منخقضـًـا كالجرادة ليكون قريبـًـا من أهل الأرض.
وأعتقد أنّ شرح سليم حسن غاية فى الأهمية ، عندما فرّق بين قدرة الصقر على التحليق فى السماء ، وخصائص الجرادة التى تكون بالقرب من الأرض . كما أنّ هذا النشيد به درجة من درجات اللجوء إلى الخيال الشعرى ، عندما استخدم كاتب النص تعبير أنّ الملك (قبـّـل السماء)
ومن بين نصوص (متون الأهرام) النشيد التالى :
إنّ قلبك معك يا أوزير.. وقدماك معك يا أوزير.. وذراعاك معك يا أوزير..
وهكذا فإنّ قلب الملك معه ، وقدماه معه.. وقد ضرب له سلم على الأرض فهو يرقى فيه إلى السماء.. وإنه يصعد إلى السماء على دخان المبخرة العظيمة..
وهذا الملك يطير كطائر ثم يـُـرفرف منخفضـًـا كجمل..
على العرش الخالى الذى فى سفينتك يا (رع)
قف وتنحّ بعيدًا داخل مكانك يا من لا يعرف السير فى الأعشاب الكثيفة..
وعلى ذلك فإنّ الملك يأخذ مكانك ويسيح فى سفينتك يا (رع)
وعندما تــُـشرق فى الأفق يكون صولجانه فى يده.. بوصفه قائدًا لسفينتك يا (رع)
وأهمية هذا النشيد تكمن فى الخيال الذى أبدعه كاتب النشيد ، حيث تخيل وجود وسيلة للصعود إلى السماء (السلم المُــتخيــّــل) وفى برديات أخرى تخيـّــل كاتب النص شكلا يُـشبه البساط السحرى كما جاء (بعد آلاف السنين) فى ألف ليلة وليلة ، ونوع ثالث عبارة عن كائن خرافى يصعد بالإنسان إلى السماء.
وفى نشيد آخر كتب كاتب النص :
استيقظ أيها القاضى (تحوت) انهض عاليـًـا يا تحوت..
أيها النائمون هبوا.. استيقظوا
أمام الطائر العظيم الذى ارتفع من النيل وابن آوى الذى خرج من شجرة الأثل..
إنّ فم الملك الطاهر وإنّ التاسوعيْن قد بخــّــراه..
وإنّ لسان الملك الذى فى فمه طاهر..
وإنه يمقت البراز ويعاف البول.. (وفى بردية أخرى فإنّ الآلهة تمقتْ الكذب كما تمفتْالبراز)
وأنتما يا (رع) و(تحوت) خذاه إليكما ليكون معكما..
حتى يأكل مما تأكلان ويشرب مما تشربان..
وحتى يعيش مما تعيشان ويسكن حيث تسكنان..
وأنه يحيط بالسماء مثل (رع) ويخترق القبة الزرقاء مثل (تحوت)
وفى نشيد بعنوان (المتوفى يظفر بصعود السماء) جاء فيه :
إنّ فى السماء هياجـًـا..
وإن نرى شيئاً جديدًا.. هكذا تقول الآلهة الأزلية..
وأنتم يا آلهة التاسوع إنّ فى أشعة الشمس لصقرًا (أى ملكــًـا) وهو الذى يذهب من السماء إلى الأرض.. وإنّ الآلهة أصحاب الصورة فى خدمته..
والتاسوعان جميعـًـا يخدمونه.. ولذلك تبوّأ مقعده على عرش رب الجميع..
وبذلك أصبحتْ السماء فى قبضة الملك ، فهو يخترق سماءه..
وأنّ الملك قد عرف طريقه إلى الإله (خبرى) (= الشمس وقت الظهيرة)
وأنّ الملك يـُـودّعه من الحياة (أى تاركــًـا الحياة) إلى الغرب (= الحياة الآخرة والخلودفى اللغة المصرية القديمة.. ولذلك لم يكن المصريون القدماء يستخدمون كلمة الموت) من أجل أنْ يكون فى صحبة أوزير.. مع سكان العالم الآخر..
وإنّ الملك يشرق ثانية فى الشرق..
إنّ الملك فى قبضته الأمر (= الفهم) والأبدية صارتْ إليه..
الملك قد استولى على الأفق..
والملك مُـجهـّـز لأنه قد استحال فى جسمه كل الأرواح..
والملك هو من حقــّـتْ كلمته مع من خفى اسمه (أى الثعبان الذى يحارب إله الشمس) وبالتالى فإنّ المتوفى مُـبرّأ أمام الإله.
وفى نشيد بعنوان (حور المُسيطر على الصدق يُعلن وصول المتوفى إلى السماء) جاء فيه :
هل تريد أنْ تحيا يا حور المُسيطر على حرية الصدق ؟
عليك إذن ألاّ تــُـغلق مصرعىْ باب السماء ، ويجب عليك أنْ تردع مصراعىْ بابك الحائلين.. بمجرد أخذك (كا) أى روح هذا الملك إلى هذه السماء..
بين المُبجلين حول الإله.. والذين يسهرون على حراسة الوجه القبلى..
والذين يرتدون الملابس الأرجوانية ويعيشون على التين..
والذين يشربون الخمرويدلكون أنفسهم بأطيب الزيوت..
وعلى ذلك تكلـمتْ ال (كا) أى الروح..
وفى نشيد بعنوان (المتوفى يأتى كرسول إلى أوزير) جاء فيه :
(رجاء موجه إلى النوتى الذى يعبر بقاربه من شاطىء لآخر فى السماء لينقل المتوفى حيث يسكن أوزير) وبعد هذا التنبيه ، جاء نص النشيد :
أيها العابر إلى حقل قربان الطعام..
أحضر لى هذا الملك.. إنه هو الذى يروح وإنه هو الذى يغدو..
وهو ابن سفينة الصباح التى قد ولدته على وجه الأرض ولادة سليمة..
وبها تحيا الأرضان على الجانب الأيمن لأوزير..
انظر.. إنه يأتى برسالة من أبيك جب (جب هو إله الأرض)
إنّ محصول العام سعيد.. ما أسعد محصول العام.. إنّ محصول العام حسن..
لقد نزل الملك مع التاسوعيْن فى الماء البارد (اسم يـُـطلق على جزيرة فى السماء)
وقد وجد الملك الآلهة واقفين فى انتظاره.. ملفوفين فى ملابسهم.. ونعالهم البيضاء فى أقدامهم..
وعندئذ ألقوا بنعالهم على الأرض.. ثم خلعوا ملابسهم..
ورأى الملك حقول الطعام فى السماء..
وفى نشيد بعنوان (إلهتان تُرضعان المتوفى) وهما إلهة الوجه القبلى وإلهة الوجه البحرى جاء فيه :
إنّ الصاعد يصعد وكذلك يصعد الملك..
ولذلك تفرح سيدة بوتو (بلدة ابطو الحالية) وقلب ساكنة الكاب فى انشراح..
فى ذلك اليوم الذى يعرج فيه الملك إلى المكان الذى فيه (رع)
وقد ضرب لنفسه شعاع رع بمثابة مصعد ليصعد فيه..
كسلم تحت قدميه.. ليعرج فيه إلى المكان لذى تأوى إليه أم (الصل الحى) الذى على رأس رع..
وهى تقدم له ثديها لترضعه وتقول :
يا بنى.. أيها الملك.. خذ ثديى هذا وارضعه أيها الملك..
لماذا لم تأت كل يوم من أيامك ؟
إنّ جب (أى والده إله الأرض) هو الذى يأخذ بيد الملك..
ويرشده إلى أبواب السماء..
عندما يكون الإله على عرشه.. وإنه لجميل أنْ يكون الإله على عرشه.. والإلهة (ساتى) قد طهـّـرته.. بأباريقها الأربعة.. مرحى.. من أين أتيتَ أنتَ يا ابن أبى ؟
إنه أتى من عند التاسوع المُـقـدّس الذى فى السماء لأجل أنْ يـُـشبعهم..
من أين أتيتَ أنتَ يا بن أبى :
لقد أتى من عند أمّـيـْـه.. وهما صاحبتا الشعر الطويل.. واللتان تعطيان ثدييهما إلى فم الملك (بيبى)
على أنهما لم تفطماه إلى الأبد..
وفى نشيد عالج فيه مؤلف النص الفصل بين المتخاصمين فى الآخرة فكتب :
إنّ الملك يفصل فى السماء بين المتخاصمين..
لأنّ قوته هى قوة عين الشمس.. وسلطانه هو سلطان عين الشمس..
وقد خلــّـص الملك نفسه مما فعله هؤلاء ضده..
ولكن الملك (المقصود هنا هو أوزير) أعظم نصرًا منهم.. فإنه يـُـشرق ثانية على شاطئه..
والأشرار مساكنهم النار وضياعهم تــُـصبح فريسة للفيضان..
ليتَ قلب الملك يـُـصبح منشرحـًـا..
أوزير هو القاضى الذى يحكم على روح المتوفى ، وهل تدخل الروح حقول اليارو (الجنة) أم يبتلعها (عم – موت) ؟ والحساب يكون من خلال ميزان العدالة ، وبواسطة ريشة (ماعت) يتبين إذا كان المتوفى قد ارتكب بعض الآثام أم لا.. وكان قلبه هو الذى يشهد عليه ، وذلك كما جاء بالتفصيل فى كتاب (الخروج إلى النهار) الشهير فى ترجمته الخاطئة ب (كتاب الموتى) وفى النشيد االمذكور فى أناشيد (متون الأهرام) فإنّ أوزير يلعب دور (رع) حيث يمثــّـل الشمس التى تغيب كل يوم فى المغرب ، وتولد ثانية كل يوم فى المشرق . وبذلك كان (الغرب) عند المصريين القدماء مكان الخلود ، والشرق مكان الولادة ، وذلك مثل (رع/ الشمس) لأنّ رع يغيب ويُـشرق كل يوم.