عشقت السفر منذ نعومة أظفارى، وبعد أن تخصصت فى الإذاعة والإعلام والصحافة أتيحت لى فرصة السفر إلى دول عديدة فى كل قارات العالم. من الدول التى أعجبتنى ولها مكانة عندى دولة صغيرة تقع فى جنوب شرق أوروبا، ولا تزيد مساحتها عن 28748 كيلو متراً مربعاً هى ألبانيا التى يبلغ عدد سكانها ثلاثة ملايين نسمة، زرت ألبانيا أكثر من مرة خلال الحكم الشيوعى لها، واذا أردت الدقة فى التعبير خلال الاستعمار الشيوعى لها، الذى جثم على صدرها حوالى نصف قرن وحرمها من أغلى قيمة للإنسان وهى الحرية، مع أن الإنسان الألبانى يتمتع بصفات وخصال جميلة، فهو طيب صادق محب صبور مقبل على العمل شجاع قوى فنان، لكن النظام الشمولى الشيوعى حرمه من حريته بل إنسانيته، كان ممنوعا على المواطن امتلاك سيارة بل عجلة دراجة فقط اذا أراد، وكان ممنوعا عليه أيضا أن يسافر الى الخارج، وحتى الى الداخل إلا باذن مسبق، الطريف أن الناس يجب أن تنام فى الثامنة مساء وممنوع الخروج الى الشارع بعد ذلك.
فى مدينة تيرانا عاصمة ألبانيا حاولت زيارة المسجد الوحيد فيها فلم أستطيع، فالمسجد مغلق إلى الأبد، لأن النظام- كما كان يقول- قام بثورة ضد الله- وانتصر ومن هنا منعوا التدين والصلاة وتدريس الدين وحولوا المساجد والكنائس الى كافتيريات ومنتزهات وكباريهات. كنت أجول فى شوارع ألبانيا الهادئة الفارغة فأشعر أننى وحدى، واذا حاولت التحدث الى أى مواطن فهو يهرب منى ويختفى، فممنوع على أى البانى يتحدث الى أجنبى.. إنها جريمه!.
ممنوع على المواطن أن يترك لحيته أو يطلق شعره.. ممنوع. ممنوع. صبر الشعب الألبانى خلال الحكم الشيوعى صبرا جميلا لكنه كان يعمل من أجل بلده الذى أحبه على الرغم من الظلم والتقشف. فى اليوم الثانى من شهر يوليو 1990 قامت الثورة فى ألبانيا ولم تهدأ بدأت فى جامعة تيرانا قام بها طلبة الجامعة وكان أول طلب لهم هو تغيير اسم الجامعة من جامعة أنور خوجا- وهو اسم الدكتاتور الحاكم- الى جامعة تيرانا حتى يتخلصوا من الاسم الذى ارتبط فى ذهنهم بالنظام الشيوعى الشمولى وبالظلم والفقر و التقشف، وتحقق أول طلب لهم، والتقى نخبة من الشباب الثائر وعددهم خمسة وعشرين طالبا وأستاذا وعلى رأسهم عزام حديرى مع رئيس البانيا رامز عاليا، وكان مطلبهم الرئيسى هو التعددية الحزبية والغاء الحزب الواحد، وفتح الباب الديمقراطية، لم يجد الرئيس بدا من الموافقة، فقد أحاط بقصره نحو خمسة عشر ألفا هم طلاب الجامعة الثائرين، وراءهم حوالى مائة ألف من شعب ألبانيا الثائر الذى فاض به كيل الظلم والجهل والتقشف والتفرقة والاستعباد والقهر، كان الجميع على استعداد لعمل أى شئ، بل بالتضحية بحياتهم فى سبيل تحقيق الحرية، وكان طالب الفلسفة عزام حديرى قائد الثورة ومشعلها على قدر من الاحترام وقوة الشخصية التى دفعت الرئيس رامز عاليا الى احترام الثوار ومحاولة تهدئتهم وتحقيق طلباتهم، وأجريت انتخابات نادت بها حركة الطلبة داخل الجامعة- كانت سرية فى البداية- التى أصبحت علنية تحت اسم الحزب الديمقراطى الجديد، استطاع هذا الحزب أن يحصل على خمسة وسبعين مقعدا معارضا فى البرلمان لأول مرة، فقد كانت المعارضة جريمة وخيانة.
هكذا نجحت ثورة المثقفين فى البانيا بقيادة الشباب، ولم تكن الثورة ناعمة سهلة بل كان لها ضحايا، إذأن حوالى مائة شاب ألبانى لجأوا الى سفارات اليونان وإيطاليا هربا من الحكم الفردى والتقشف الاقتصادى.
اما طالب الفلسفة، عزام حديرى، فلم يشأ أن يتصدر الموقف ويتزعم الثورة، بل قدم أستاذه الدكتور سالى بريشا الأستاذ بكلية الطب ليتزعم الثورة والمعارضة حتى يستفيد بخبرته السابقة كسكرتير للحزب الشيوعى فى جامعة تيرانا.
بعد قيام ونجاح الثورة الألبانية تلقيت نمالمة هاتفية من تيرانا العاصمة وكان المتحدث صديقى كاظم الذى كان يعمل قنصلا بالسفارة الألبانية بالقاهرة وقال لى: : لقد قامت الثورة فى ألبانيا وأصبحنا أحرارا ويمكننى الآن الاتصال بك فى القاهرة وكل الدنيا ولم يعد ذلك ممنوعا..”.
كذلك اتصل بى صديقى سرجا السفير الألبانى فى مصر خلال الثمنينات من القرن الماضى وعبر عن فرحته بثورة ألبانيا.
أما سفير البانيا الدكتور نورى دومى Dr.Nuri Domi الذى سافر الى بلده منذ اشهر قليلة بعد انتهاء عمله الرسمى فى مصر فقد كان صديقا عزيزا وصورة مشرقة لألبانيا الجديدة وقبل سفره قال لى: أنت زرت ألبانيا خلال الحكم الشيوعى الفاسد المستبد لكن لابد لك من زيارة البانيا الجديدة الحرة الاوربية المستحضرة التى يتمتع أبناءهم بأهم قيمة وهى الحرية التى لا توجد قيمة تساويها فالحرية هى الإنسانية والإنسانية هى الحرية.. ولاستكمال المشوار مع الحرية وعلاقات الصداقة والأخوة بين مصر والبانيا وصل الى مصر فى الايام القليلة الماضية السيد ادوارد Eduard Suloواقام حفلا بمناسبة العيد الوطنى السبعين لتحرير البانيا وقال فى هذه المناسبة: البانيا تعتز بعلاقات الصداقة التاريخية مع مصر، ونحن نعتز بأن محمد على كان ألبانيا، ومن الواضع أن الإنسان المصرى والألبانى يتمتعان بسمات واحدة وحب الوطن والصداقة والحرية.