عندما نتأمل هذا النص من إنجيل القديس مرقس الرسول، نتساءل :
لماذا انفرد يسوع بالأصَمّ المعقود اللسان عن الجمع؟
ولماذا أراد يسوع أن يكون وحده مع الأصَمّ بعيداً عن الناس؟
صعب جداً على الإنسان أن يدرك أسرار السيد المسيح وتعاليمه، وهو منغمس في ضوضاء الحياة ومغرياتها الجذابة؛ لذالك أراد أن يكون وحده مع الأصَمّ، بعيداً عن إثارات الجموع وحبّهم للمظاهر والادّعاءات والكبرياء.
شاء أن يكون وحده مع المريض ليتكلّم معه ويحاوره بهدوء وصمت، ومن ثمّ يثبّت في قلبه الإيمان بقدرة الله، والرجاء في الحياة الروحية، والمحبّة بالثقة البنويّة .
كُلُنا بحاجة إلى حياةٍ هادئة، بعيداً عن مشاكل الحياة وضجيجها وتحركاتها واضطراباتها، لنجد الراحة.. لنستطيع أن نلتقي بيسوع بالتأمل والصلاة والمناجاة، ولكي نفتح عقولنا وقلوبنا له ونستمع بخشوع وتقوى إلى تعاليمه، فتتفاعل فينا نعمته ونعيش بحسب وصاياه، عندئذٍ نعيش حياته ونتبنى تفكيره وأعماله .
كُلُنا مدعوون للانفراد بالمعلّم الإلهي، لكي يُعرّفنا عن ذاته وجوهره ويُزيل من حياتنا الخوف، وكل ما يعوق مسيرتنا نحو محبته وحقيقته لنقلهما للآخرين، ونعمل معهم على نشر هذه الحقائق الإلهية ليفتح الله آذانهم وألسنتهم فيمجدون ويسبحون ويشكرون الله على عطاياه ونعمه .
كان يسوع يسأل القادمين إليه والطالبين منه معجزة للتخلص من أمراضهم:”هل تؤمن؟” “ليكن بحسب إيمانك”.
أمّا في شفاء الأصَمّ أراد يسوع أن تكون الأعجوبة باللمس:”جعل إصبعيه في أذنيه، ثم تفل ولمس لسانه”(مرقس33:7).. لماذا أراد يسوع المخلّص والطبيب الشافي أن تكون الأعجوبة هذه المرّة باللمس؟
لنبعد عنا الجدال البشري والفلسفات ونعمل على قراءة العبرة من النص الإنجيلي.. أمام مرض ألمّ بنا لا بُدّ من قرار نأخذه، شفاؤنا يتطلب منا جهداً بشرياً وعزيمةً قويّة
نحن كائنات من جسد وروح.. في مسيرتنا الروحية للجسد دور يقوم به وللروح دور آخر، وكليهما يتكاملان وثمرتهما قداستنا وسعادتنا؛ بالجسد ننحني أمام القربان المقدّس، ونجثو لنتأمل ونصلي بحضور جسد الرب ودمه الأقدسين.
بأعيننا نقوم بقراءة الكتاب المقدّس، وبأيادينا نحمله بفرح وخشوع، ونقوم بأعمال الرحمة وخدمة القريب، وبشفاهنا نُقبّله ونضعه على رؤوسنا .
بإلهام من الروح القدس نقوم بكل هذه الأعمال الجسديّة لكي نشفى من الخطايا جسداً وروحاً، ولكي نتقرّب من المخلّص يسوع؛ لكي نعيش الحياة الإلهية الحقّة .
إنسان اليوم، إنسان القرن الواحد والعشرين، أصَمّ، أبكم، لا يعرف الإصغاء ولا يريد أن يسمع؛ والأسوأ من ذلك لا صبر له لسماع الآخرين والاستفادة منهم ومن خبراتهم، والمعروف في المجتمعات من لا يسمع لا يستطيع أن يتكلّم .
ماذا باستطاعة الإنسان والمسيحي خاصةً التكلّم عن الله إذا لم يسمعه بالتأمل والصلاة والتخشع له ولم يستنِر بنوره الإلهي البهي؟
يحثنا غرورنا وكبرياؤنا على أن نهتم بأحاديثنا وأقوالنا، ونفكّر جيداً وبأسلوب لائق ونختار الكلمات المعبّرة عما سنقوله لغيرنا، وننسى قول السيد المسيح:”لا تهتموا من قبل بماذا تتكلمون، بل تكلّموا بما يُلقى إليكم في تلك الساعة، لأنكم لستم المتكلمين، بل الروح القدس”(مرقس١٣:١١).
طوبى للإنسان الذي يفتح قلبه لكي يسكن فيه يسوع، لأنه عندئذٍ يحيا حياته”(رومة٥:١٠)، أي يحب بقلبه الإلهي، ويتكلّم بإلهاماته ويعمل بيديه المخلّصتين .