النجاح حلم يراود الإنسان عبر الزمان، وهدف منشود يسعي إلى تحقيقه، والإنسان السوي لا يرغب في النجاح فحسب بل ومواصلة النجاح في مجالات الحياة المتعددة الشخصية والأسرية والعلمية والعملية والإجتماعية والمادية وكذلك في كل مراحل حياته العمرية.
فمَنْ يختبر مذاق النجاح يتوق إلى إحراز نجاحات أخرى، فالنجاح كما يقال رحلة لا مرحلة، وهي رحلة لا محطة فيها، إنه ليس هدفاً إنما درجة في سلم نرتقيه.
النجاح في حقيقته بداية وليس نهاية، فليس هناك محطة وصول للنجاح نستطيع أن نقول عندها إننا وصلنا إلى آخر محطة.
فصدق مَنْ قال: إن النجاح الذي يعقب النجاح الأول يدفع الشخص لإدمان النجاح.
هذا ولابد أن نضع في إعتبارنا أن للنجاح ثمنه وضريبته ولابد لمَنْ يبتغي ويرنو للحياة الناجحة أن يكون على إستعداد لدفع الضريبة والثمن عن طيب خاطر وبكل سرور.
في هذا المقال وما يليه في الأعداد القادمة سنرى الأسرار التي ثقف وراء كل ناجح ومتميز وهي كثيرة جداً أذكر منها الآتي:
ثالثاً : استثمر أي موهبة في حياتك مهما كانت صغيرة
في مثل الوزنات الذي قدمه الرب يسوع في (متي25: 21- 25) نري الذي أخذ الخمس وزنات، والذي أخذ الوزنتين، كل منهما تاجر وربح، أما الذي أخذ الوزنة الواحدة فلم يتاجر بها ولم يربح شيئاً.
والسؤال الذي يفرض نفسه لماذا خاف العبد الذي أخذ الوزنة الواحدة من استثمار وزنته؟! أغلب الظن أنه خاف من الفشل فلقد رأى أنها مغامرة قد ينجح في إستثمار الوزنة وقد يفشل، وهناك مَنْ قال : لقد أصابه الإحساس بصغر النفس عندما بدأ يقارن نفسه بصاحب الخمس وزنات، وصاحب الوزنتين، فوجد نفسه أقل وأصغر منهما.
نعم! إن الإنسان الحكيم لا يقارن نفسه بالآخرين فهذا أسلوب سلبي، فعندما يقارن الواحد نفسه بمَنْ هم أصغر أو أضعف أو أفقر منه ربما يصاب بالغرور، وعندما يقارن نفسه بمَنْ هم أكبر وأقوى وأغنى منه يصاب بالإحباط واليأس ويصرف وقتهفي المقارنة ورثاء الذات.
الجدير بالذكر أن يوسيفوس المؤرخ اليهودي يقول: إن الوزنة كانت تساوي ألفدينار، وكان الدينار في ذلك الوقت قيمة أجر يوم للعامل، أي أن السيد أعطاه ما يقرب من أجر ثلاث سنوات مقدماً، فلم تكن الوزنة صغيرة، إنما الواقع أن نفسه هي التي كانت صغيرة، وهذا الإحساس أبعده عن التفكير الإيجابي في كيفية إستثمار وزنته.قد يحتقر صاحب الوزنة الواحدة نفسه، لكن الرب لم يحتقر الأشياء الصغيرة أبداً، حتى أنه قال”َمَنْ سَقَى أَحَدَ هؤُلاَءِ الصِّغَارِ كَأْسَ مَاءٍ بَارِدٍ فَقَطْ بِاسْمِ تِلْمِيذٍ، فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَهُ) ” مت10: 42).
نعم! إن كلمة الله تعلمنا أن نستثمر ما لدينا مهما كان قليلاً لا نحتقره، ومع الأيام سنرى أروع النتائج المبهرة، فهذا ما نراه في الصورة الجميلة التي رسمتها ريشة الوحي المقدس في ( 2مل ص4) عندما جاءت الأرملة إلى رجل الله أليشع وهي تعرض شكواها ومعاناتها وخوفها من المرابي الذي يريد أن يأخذ ولديها كعبدين إذا لم تسدد الدَين الذي عليها، ولما سألها أليشع” مَاذَا لَكِ فِي الْبَيْتِ؟” (2مل4: 2) أجابته “لَيْسَ لِجَارِيَتِكَ شَيْءٌ فِي الْبَيْتِ إِلاَّ دُهْنَةَ زَيْتٍ”. والسؤال ماذا تفعل دهنة الزيت، ما قيمتها؟ ما دورها في حل المشكلة؟ إنها لا تفعل أي شيء، ولكن المعجزةإنطلقت من دهنة الزيت.
نعم! إن المعجزة تحدث عندما نضع ما في أيدينا في يد الرب … كيف لا؟! ألم يحدث هذا في معجزة الخمس خبزات والسمكتين؟… قال التلاميذ للرب يسوع…مَا هذَا لِمِثْلِ هؤُلاَءِ؟ (يو6: 9) ولكن الرب يسوع أمسك بها وأشبع الالآف وزاد وفاض.
كيف لا ؟! ألم تصور عدسة الوحي في سفر الأعمال تلميذة بسيطة بإمكانيات محدودة جداً إسمها طابيثا ومع ذلك يقول الوحي عنها: “هذِهِ كَانَتْ مُمْتَلِئَةً أَعْمَالاً صَالِحَةً وَإِحْسَانَاتٍ كَانَتْ تَعْمَلُهَا).” أع9: 36).
ويبقى السؤال: ما هي الإمكانات التي كانت بيد يشوع لتسقط أسوار أريحا في مكانها أمامه (يش6) .
وكيف إنتصر جدعون على المديانين بثلاث مئة رجل (قض ص7) لقد قال له الرب “إِنِّيأَكُونُ مَعَكَ”(قض6: 16)؟! وكان صوت الملاك يرن في أذنه ” الرَّبُّ مَعَكَ يَا جَبَّارَ الْبَأْسِ” (قض6: 12).
ومَنْ هو شمشون الذي ضرب ألف شخص من أعدائه بفك حمار (قضاة15: 15)؟!.
ومَنْ هو داود الفتى الصغير الذي بلا خبرة أو دراية في الحروب ليحارب جليات الجبار وينتصر عليه إنتصاراً مبهراً (1صم17)؟!.
ومَنْ هو يوحنا المعمدان الإنسان البسيط الذي يصفه الوحي في (مت3: 4) ” كَانَ لِبَاسُهُ مِنْ وَبَرِ الإِبِلِ، وَعَلَى حَقْوَيْهِ مِنْطَقَةٌ مِنْ جِلْدٍ. وَكَانَ طَعَامُهُ جَرَادًا وَعَسَلاً بَرِّيًّا.” الذي أعد ومهد الطريق أمام الرب (يو1: 23)؟!.
ومَنْ هم التلاميذ الذين إختارهم الرب يسوع ليضع على عاتقهم مسئولية تأسيس الكنيسة ونشر الإنجيل وإمتداد ملكوته؟!.
إنهم إناس عاديون وضعوا حياتهم بين يدَي الله فإستطاعوا ببراعة وإقتدار أن يفتنوا المسكونة، ويضموا إلى الكنيسة كل يوم الذين يخلصون (أع2: 47).
نعم! كم كان رائعاً الرسول بولس وهو يقول ليتموثاوس”لاَ يَسْتَهِنْ أَحَدٌ بِحَدَاثَتِكَ، بَلْ كُنْ قُدْوَةً “. (1تي4: 12).
في مرات نحن ننسب عدم قدرتنا على النجاح لظروف البيئة التي نعيش فيها وهذا يذكرني بما قاله نثنائيل لفيلبس عندما قدم له الدعوة لإتباع السيد قال: “أَمِنَ النَّاصِرَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ صَالِحٌ؟”(يو1: 46) فلقد كانت الناصرة قرية صغيرة وفقيرة ومحتقرة من الشعب اليهودي ولكن بالرغم من هذا خرج منها المسيح، فالبيئة أو المجتمع أو العائلة ليست معطلات في طريق مَنْ يريد أن ينجح.
رابعاً: لا تخف من أي معوقات
عندما وجه الرب الدعوة لموسى ليقود الشعب ويخلصهم من يد فرعون كان رد موسى على الرب: “مَنْ أَنَا حَتَّى أَذْهَبَ إِلَى فِرْعَوْنَ”.
كان موسى ثقيل الفم واللسان مما جعله يحاول الإعتذار عن المهمة، لكن الرب شجعه وطمأنه وقال له: «مَنْ صَنَعَ لِلإِنْسَانِ فَمًا؟ أَوْ مَنْ يَصْنَعُ أَخْرَسَ أَوْ أَصَمَّ أَوْ بَصِيرًا أَوْ أَعْمَى؟ أَمَا هُوَ أَنَا الرَّبُّ؟ فَالآنَ اذْهَبْ وَأَنَا أَكُونُ مَعَ فَمِكَ وَأُعَلِّمُكَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ.” ) خر4: 11، 12).
وعندما دعا الرب إرميا لرسالة النبوة وعمره أقل من العشرين سنة إستصغر إرميا نفسه لأن المهمة كانت شاقة وصعبة فقال: “آهِ، يَا سَيِّدُ الرَّبُّ، إِنِّي لاَ أَعْرِفُ أَنْ أَتَكَلَّمَ لأَنِّي وَلَدٌ”(إر1: 6) ولكن الرب شجعه وقال له:” «لاَ تَقُلْ إِنِّي وَلَدٌ، لأَنَّكَ إِلَى كُلِّ مَنْ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِ تَذْهَبُ وَتَتَكَلَّمُ بِكُلِّ مَا آمُرُكَ بِهِ. لاَ تَخَفْ مِنْ وُجُوهِهِمْ، لأَنِّي أَنَا مَعَكَ “(إر1: 7، 8). وهكذا إستطاع إرميا أن يقف في وجه الطغاة والقساة ويعلن صوت النبوة بكل وضوح وجلاء .
نعم ! ما أجمل ما سجله الوحي المقدس في (أخ34: 3) عن يوشيا الملك لقد تولي يوشيا المُلك وهو في الثامنة من عمره وقاد أكبر ثورة إصلاح وتصحيح في تاريخ شعب الله في العهد القديم.
إن كلمة الله تعلمنا أن الإنسان مخلوق على صورة الله، بالطبع هذا لا يعني الصورة الخارجية الجسدية لأن الله روح، لكن هذا معناه كما أن الله غير محدود وبالتالي فصورته غير محدودة، فإذا كنا لا نستطيع إحصاء صفات الله هكذا ففي الإنسان من صفاته ما لا يحصى ولا يعد من عقل وإرادة وقدرة وإصرار وإبداع وإبتكار، المهم أن الإنسان يكتشف ما في أعماقه من كنوز ثمينة، ويفجر الطاقات والقدرات الهائلة الكامنة بداخله ليستطيع أن ينجز ويضيف شيئاً في الحياة.
إن الرسول بولس يقول في (أف2: 10)” نَحْنُ عَمَلُهُ” وقد جاءت في الأصل اليوناني (نحن مجده) أو (نحن شعره) أي نحن عمل رائع من إبداع الخالق … نحن كمنظومة شعرية جميلة … يقول لكل واحد منا كما قال (لإشعياء43: 1) ” دَعَوْتُكَ بِاسْمِكَ. أَنْتَ لِي.”
إن المسيحية تؤمن بأن في داخل الإنسان قدرات بلا حدود، فلقد قال الرب يسوع لتلاميذه “هَا مَلَكُوتُ اللهِ دَاخِلَكُمْ”. (لو17: 21) فهل من قوة أعظم من ملكوت الله؟.
والرسول بولس يقول :” رُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟” (1كو3: 16) فلا عجب أن يقول يوئيل النبي لِيَقُلِ الضَّعِيفُ: «بَطَلٌ أَنَا” (يوئيل3: 10) .
أي نعم! كم من عباقرة وأبطال ومتميزين كانت بهم إعاقة معينة أو عاهة مستديمة، أو نقاط ضعف ولكنهم انتصروا على أنفسهم وتفوقوا.
لمتابعة الجزء الأول إفتح الرابط التالي: