سطرت ريشة الوحي المقدس في (مر4: 21- 25) خمسة أقوال مأثورة في مَثَل السراج، نادي بها المعلم الصالح الرب يسوع في عظة من العظات التي قدمها للجماهير الغفيرة التي جاءت إليه من كل مكان عند البحر لتستمع وتستمتع بتعاليمه السامية، وقد اتخذ من السفينة منبراً له ليتحدث إليهم، فمكتوب :” وابتَدأَ أيضًا يُعَلِّمُ عِندَ البحرِ، فاجتَمَعَ إليهِ جَمعٌ كثيرٌ حتَّى إنَّهُ دَخَلَ السَّفينَةَ وجَلَسَ علَى البحرِ، والجَمعُ كُلُّهُ كانَ عِندَ البحرِ علَى الأرضِ “(مر4: 1)… ثُمَّ قالَ لهُمْ:”هل يؤتَى بسِراجٍ ليوضَعَ تحتَ المِكيالِ أو تحتَ السَّريرِ؟ أليس ليوضَعَ علَى المَنارَةِ؟ لأنَّهُ ليس شَيءٌ خَفيٌّ لا يُظهَرُ، ولا صارَ مَكتومًا إلا ليُعلَنَ. إنْ كانَ لأحَدٍ أُذُنانِ للسَّمعِ، فليَسمَعْ”
وقالَ لهُمُ:”انظُروا ما تسمَعونَ! بالكَيلِ الذي بهِ تكيلونَ يُكالُ لكُمْ ويُزادُ لكُمْ أيُّها السّامِعونَ. لأنَّ مَنْ لهُ سيُعطَى، وأمّا مَنْ ليس لهُ فالذي عِندَهُ سيؤخَذُ مِنهُ”(مر4: 21- 25).
بالطبع كل ما فاه به الرب يسوع بمثابة أقوال مأثورة، فهو الله الذي ظهر في الجسد، وقد انسكبت النعمة على شفتيه، فلا عجب أن نسمعه يقول لتلاميذه:” الكلامُ الذي أُكلِّمُكُمْ بهِ هو روحٌ وحياةٌ”(يو6: 63).
وبالتالي من الطبيعي والمنطقي بعد أن يتحدث لسامعيه نجد عدسة الوحي تصور الذين استمعوا لتعاليمه وهم في حالة إعجاب واستمتاع،كما قال البشير متى في(مت7: 28) ” فلَمّا أكمَلَ يَسوعُ هذِهِ الأقوالَ بُهِتَتِ الجُموعُ مِنْ تعليمِهِ”.
الجدير بالملاحظة أن هذه الأقوال المأثورة نجدها في إنجيل مرقس جنباً إلى جنب، بينما نراها في باقي الأناجيل في أماكن متفرقة هنا وهناك، ويرجع السبب في ذلك أن الرب يسوع كان كواعظ متجول ينتقل من مكان إلى مكان، ولابد لكي ينشر ويرسخ تعاليمه، كان يكرر كثيراً من أقواله وأمثاله، ولابد أن الناس سمعوها وحفظوها وكانوا يرددونها من روعة وجمال هذه التعاليم التي ملكت على عقولهم، ونُقشت في وجدانهم.
كان الناس يتذكرون أقوال يسوع البليغة المؤثرة، ولكنهم في نفس الوقت نسوا المناسبات التيقيلت فيها، ولهذا ظهرت ما يسميه البعض من المفسرين ” الأقوال اليتيمة”. وهي أقوال مأثورة، أو عظات جميلة في كلمات قليلة، أذكر منها الآتي:-
أولاً: “لا يوقِدونَ سِراجًا ويَضَعونَهُ تحتَ المِكيالِ”(مر4: 21 مع مت5: 15).
نعم! لا يُعقل أُن إنساناً يضيء مصباحاً ويخبئه، وإنما يضعه في مكان يراه الناس، ليساعدهم على اكتشاف الطريق الصحيح ليسلكوا فيه، وهذا معناه أنه لابد لمسيحيتنا أن نجسدها ونترجمها في حياتنا اليومية، وأن نكون بالفعل كما أراد الرب نوراً للعالم وملحاً للأرض، ” فيَرَوْا الناس أعمالكُمُ الحَسَنَةَ، ويُمَجِّدوا أباكُمُ الذي في السماواتِ “(مت5: 16).
فلقد أُعطى الحق لكي يراه الناس، أي نعم ! لا أحد ينكر أنه كثيراً ما يكون إعلان وإعلاء الحق خطراً على قائلة، وكثيراً ما يُسّبب الإضطهاد والألم لمَنْ يعلنه، ولكن مع ذلك ينبغي على المسيحي أن يقف بجانب الحق حتى ولو كان كل الناس ضد الحق، مَنْ ينسى القديس أثناسيوس وهو يتصدى لهرطقة آريوس … في يوم قال له أحدهم” العالم كله ضدك يا أثناسيوس” فقال قولته المشهورة ” وأنا ضد العالم”.
نعم! لقد كانت إرسالية الرب يسوع كما سطرها النبي إشعياء بروح النبوة في (أش42: 1- 4) إلَى الأمانِ يُخرِجُ الحَقَّ. لا يَكِلُّ ولا يَنكَسِرُ حتَّى يَضَعَ الحَقَّ في الأرضِ “. إن التعبير … “إلَى الأمانِ يُخرِجُ الحَقَّ ” يصور الحق وكأنه خائف وخائر ويحتاج إلى مَنْ يقف بجواره لكي يشجعهويخرجه إلى دائرة الأمان، وهذه حقيقة، وعندما يقتبس البشير متى هذه النبوة يقول:” يُخرِجَ الحَقَّ إلَى النُّصرَةِ “(مت12: 20). وكأن الحق مهزوم ويحتاج لمَنْ يتحالف معه ويعضده ويأخذ بيده ويخرجه إلى ساحة الإنتصار.
لقد أطلق الرسول بولس على الكنيسة لقب ” عَمودُ الحَقِّ وقاعِدَتُه “(1تي3: 15). فإرسالية الكنيسة يجب أن تكون صورة طبق الأصل من إرسالية المسيح.
وعلى الكنيسة اليوم أن تدرك أنها يجب أن تكون ضمير المجتمع … وسراج الحق لابد أن يرتفع.
لقد وقف رجال الله بكل ثبات وصلابة في وجه الظلم والشر دون أدنى خوف من المصير الذي سيلاقونه، فنسمع إشعياء يهتف قائلاً: ” تعَلَّموا فعلَ الخَيرِ. اطلُبوا الحَقَّ. انصِفوا المَظلومَ. اقضوا لليَتيمِ. حاموا عن الأرمَلَةِ “(إش1: 17)، ويرفع عاموس صوته عالياً قائلاً: ” وليَجرِ الحَقُّ كالمياهِ، والبِرُّ كنهرٍ دائمٍ “(عا5: 24). لقد كان يدعو إلى سيادة العدالة في كل المجتمع.
وهل ننسى إيليا النبي وهو يقف أمام أخاب الملك بكل شجاعة ويقول له :” هل قَتَلتَ ووَرِثتَ أيضًا؟ … هكذا قالَ الرَّبُّ: في المَكانِ الذي لَحَسَتْ فيهِ الكِلابُ دَمَ نابوتَ تلحَسُ الكِلابُ دَمَكَ أنتَ أيضًا”.(1مل21: 17- 24).
كما أعلن أخيا الشيلوني النبي قضاء الله على يربعام بن نباط الذي فسد وأفسد الشعب وقادهإلى الضلال، دون أن يخشى الموت (1مل14: 7- 14).
وكان إرميا يواجه ملوك عصره يهوآحاز ويَهوياقيمَ ويهوياكين وصِدقيّا الملوك الذين ملكوا على يهوذا أثناء خدمته بكل أخطائهم، ويحذرهم ويوبخهم على شرورهم، ويعلن عن قضاء الله عليهم وعلى المملكة (راجع إر22: 10- 30، 25: 8- 11، 26: 10- 15، 32: 1-5، 34: 1-7، 36: 27- 31).
وهكذا وقف يوحنا المعمدان أمام هيرودس الطاغية وقال له ” لا يَحِلُّ لك “(مر6: 18).
حقاً ! إذا أرادت الكنيسة أن تقوم بدورها النبوي كعمود للحق وقاعدة له، عليها أن تكون على إستعداد لدفع الضريبة.
كيف لا؟! ألم تُقطع رأس يوحنا المعمدان؟!، ويقول تقليد قديم أنه بعد أن أحضرت إبنة هيرودسرأس يوحنا المعمدان على طبق لأمها، قطعت أمها لسانه بالسكين، لأنه اللسان الذي كان يؤنبها.
ألم تقتل إيزابل أنبياء الرب؟! (1مل18: 4و 13، 19: 10).
ألم تقتل ” أورُشَليمُ! الأنبياءِ المُرسَلينَ”؟!(مت23: 37).
نعم! يجب أن نكون نوراً للعالم كما أراد السيد، مهما كلفنا هذا الدور من ثمن.
ثانيا: ” ليس شَيءٌ خَفيٌّ لا يُظهَرُ”(مر4: 22مع مت10: 26)
نعم! الإنسان وهو يفكر في عمل الشر، يفكر أن يفعله في الظلام حتى لا يراه ولا يكتشفه أحد،لذلك مكتوب “وأحَبَّ الناسُ الظُّلمَةَ أكثَرَ مِنَ النّورِ، لأنَّ أعمالهُمْ كانَتْ شِرِّيرَةً”(يو3: 19). وعندما يفعل الإنسان الشر يختفي كما فعل آدم وحواء (تك3: 8). ويحاول بكل طريقة إخفاء معالم الجريمة … إنما الحقيقة هي أنه لا يستطيع الإنسان أن يخفي الحق، وإذ فعل فإنه يعيش تعيساً كل حياته، لا يمكن أن يستريح إلا عندما يقول له الرب “مغفورة لك خطاياك”. والسؤال مَنْ ذا الذي يستطيع أن يخفي سراً عن الله؟ لابد أن يتحقق قول السيد ” ما من خفي إلا ويُستعلن “(لو8: 17).
ولابد أن نعلم أن الله كاشف كل حياتنا ” الغارِسُ الأُذُنِ ألا يَسمَعُ؟ الصّانِعُ العَينَ ألا يُبصِرُ؟” (مز94: 9). نعم! إنه يعرف كل شيء حتى تفكيرنا فيقول داود في (مز139: 1- 7) فهِمتَ فِكري مِنْ بَعيدٍ. مَسلكي ومَربَضي ذَرَّيتَ، وكُلَّ طُرُقي عَرَفتَ. لأنَّهُ ليس كلِمَةٌ في لساني، إلا وأنتَ يارَبُّ عَرَفتَها كُلَّها. مِنْ خَلفٍ ومِنْ قُدّامٍ حاصَرتَني، وجَعَلتَ علَيَّ يَدَكَ. عَجيبَةٌ هذِهِ المَعرِفَةُ، فوقي ارتَفَعَتْ، لا أستَطيعُها. أينَ أذهَبُ مِنْ روحِكَ؟ ومِنْ وجهِكَ أين أهرُبُ؟”.
قد تحاول إخفاء معالم الجريمة بكل طريقة لكن الله يرسل لك صوته قائلاً ” أنت هو الرجل”.
لقد قرأت قصة إنسان، في يوم من الأيام إرتكب جريمة قتل، وحاول بدهاء شديد، وبمهارة فائقة إخفاء معالم جريمته، والهروب من ساحة المحاكمة، وبالفعل لم يتوصل رجال الأمن إلى مرتكب الجريمة، وسُجلت الجريمة ضد مجهول.
ولكن بعد عشر سنوات جاء الرجل إلى قسم البوليس وهو يذرف الدموع وفي منتهى الإنهياروالألم ومرارة النفس، وأخذ يعترف بجريمته، التي مرت عليها أكثر من عشر سنوات، وإندهش رجال الشرطة، وتصوروا أن الرجل قد فقد عقله وصوابه، ولكنهم أمام إضطرابه وإلحاحه، كشفوا في السجلات القديمة فتبين لهم أن جريمة قتل قد حدثت بالفعل في المكان والزمان وبنفس الظروف والملابسات التي يصفها الرجل.
وعندما سألوه ” لماذا أتيت بنفسك بعد هذه المدة الطويلة لتعترف بجريمتك؟! فكانت إجابته إنني أريد أن أنال عقاباً على جريمتي، فأي عقاب سيكون أخف من عذاب ضميري، فمَنْ اليوم الذي فيه ارتكبت الجريمة وأنا لا أعرف مذاقاً للحياة، لقد وصلت إلى الدرجة التي أتخيل فيها أن الموت أفضل من الحياة.
نعم! أوهام إذا تخيلنا أو تصورنا أننا نستطيع أن نستمر في خداع النفس والناس بكل الصور الأساليب لننال الراحة والسلام، هذا ومن ناحية أخرى من المستحيل إخفاء معالم جرائمنا بعيداً عن عين الله.
إن الحقيقة الراسخة كالجبال هي أن قلوب البشر وأفكارهم ودوافعهم ونواياهم مكشوفة أمام عيني الله، ويجب علينا بدلاً من أن نخفي أخطاءنا وعيوبنا، أن نطلب من الله أن يغّير حياتنا حتى لا نعود نخجل أو نخاف منها، والحق الذي يجب أن يلمع دائماً أمامنا هو ” مَنْ يَكتُمُ خطاياهُ لا يَنجَحُ، ومَنْ يُقِرُّ بها ويترُكُها يُرحَمُ “(أم28: 13).
فلن ننال العون من إلهنا الذي نحتاجه لعمل الصواب إلا حين نعترف بخطايانا الخفية ونطلب غفران الله.
لهذا لتكن صلاتنا ” اختَبِرني يااللهُ واعرِفْ قَلبي. امتَحِنِّي واعرِفْ أفكاري. انظُرْ إنْ كانَ فيَّ طَريقٌ باطِلٌ، واهدِني طَريقًا أبديًّا” (مز139: 23، 24).
ثالثاً: “مَنْ له أُذُنانِ للسَّمعِ، فليَسمَعْ”( مر4: 23مع مت11: 15)
وهنا نجد الرب يدعو الإنسان للسمع والتجاوب والطاعة لصوته، وإلا فما الفائدة أن الله يخلق الآذان للإنسان، أليس ليسمع ويدرك ويتجاوب ويجسد ما يسمعه في سلوكياته اليومية؟!.
في نهاية الموعظة على الجبل ختم الرب يسوع حديثه الشيق الممتع الذي لمس قلوب الملايين عبر السنين بهذه الكلمات ” فكُلُّ مَنْ يَسمَعُ أقوالي هذِهِ ويَعمَلُ بها، أُشَبِّهُهُ برَجُلٍ عاقِلٍ، بَنَى بَيتَهُ علَى الصَّخرِ. فنَزَلَ المَطَرُ، وجاءَتِ الأنهارُ، وهَبَّتِ الرِّياحُ، ووَقَعَتْ علَى ذلكَ البَيتِ فلم يَسقُطْ، لأنَّهُ كانَ مؤَسَّسًا علَى الصَّخرِ. وكُلُّ مَنْ يَسمَعُ أقوالي هذِهِ ولا يَعمَلُ بها، يُشَبَّهُ برَجُلٍ جاهِلٍ، بَنَى بَيتَهُ علَى الرَّملِ. فنَزَلَ المَطَرُ، وجاءَتِ الأنهارُ، وهَبَّتِ الرِّياحُ، وصَدَمَتْ ذلكَ البَيتَ فسَقَطَ، وكانَ سُقوطُهُ عظيمًا”(مت7: 24- 27).
وأسفاه كم من أناس لها آذان ولا تسمع كما قال السيد ” مِنْ أجلِ هذا أُكلِّمُهُمْ بأمثالٍ، لأنَّهُمْ مُبصِرينَ لا يُبصِرونَ، وسامِعينَ لا يَسمَعونَ ولا يَفهَمونَ”(مت13: 13). أو كما عاتب التلاميذ عندما كانوا معه في السفينة ولم يكن معهم إلا رغيف واحد ” ففَكَّروا قائلينَ بَعضُهُمْ لبَعضٍ:”ليس عِندَنا خُبزٌ”. فعَلِمَ يَسوعُ وقالَ لهُمْ: “لماذا تُفَكِّرونَ أنْ ليس عِندَكُمْ خُبزٌ؟ ألا تشعُرونَ بَعدُ ولا تفهَمونَ؟ أحتَّى الآنَ قُلوبُكُمْ غَليظَةٌ؟ ألكُمْ أعيُنٌ ولا تُبصِرونَ، ولكُمْ آذانٌ ولا تسمَعونَ، ولا تذكُرونَ؟”(مر8: 16- 18).
والسمع يعني الطاعة أو التطبيق العملي لما نسمع، ولهذا نجد الرسول يعقوب يقول: “ولكن كونوا عامِلينَ بالكلِمَةِ، لا سامِعينَ فقط خادِعينَ نُفوسَكُمْ. لأنَّهُ إنْ كانَ أحَدٌ سامِعًا للكلِمَةِ وليس عامِلاً، فذاكَ يُشبِهُ رَجُلاً ناظِرًا وجهَ خِلقَتِهِ في مِرآةٍ، فإنَّهُ نَظَرَ ذاتَهُ ومَضَى، وللوقتِ نَسيَ ما هو”(يع1: 22- 24).
رابعاً: بالكَيلِ الذي بهِ تكيلونَ يُكالُ (مر4: 24مع مت7: 1، 2)
لقد نادى الرب يسوع من خلال هذا القول المأثور بمبدأ مهم جداً في الحياة، وهو علينا أن نفحص حياتنا قبل أن ننتقد الآخرين، فمَنْ المؤسف أن تكون لدينا نفس الصفات السلبية التي ننتقدها وندينها عندما نجدها في الآخرين، ولهذا رسم الرب يسوع صورة باسمة وساخرة في كلماته الخاصة عن إدانة الآخرين حيث قال: “لا تدينوا لكَيْ لا تُدانوا، لأنَّكُمْ بالدَّينونَةِ التي بها تدينونَ تُدانونَ، وبالكَيلِ الذي بهِ تكيلونَ يُكالُ لكُمْ. ولماذا تنظُرُ القَذَى الذي في عَينِ أخيكَ، وأمّا الخَشَبَةُ التي في عَينِكَ فلا تفطَنُ لها؟ أم كيفَ تقولُ لأخيكَ: دَعني أُخرِجِ القَذَى مِنْ عَينِكَ، وها الخَشَبَةُ في عَينِكَ؟ يامُرائي، أخرِجْ أوَّلاً الخَشَبَةَ مِنْ عَينِكَ، وحينَئذٍ تُبصِرُ جَيِّدًا أنْ تُخرِجَ القَذَى مِنْ عَينِ أخيكَ! “(مت7: 1- 5).
لقد علمتنا مدرسة الحياة أنه من السهل على الإنسان أن يعظ غيره، ومن الصعب أن يعظ نفسه،ولهذا قال الشاعر:
يـا أيهــــــا المعلـــــــــــم غيـــــــــره هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى كيما يصح به وأنت سقيم
نعم! فمَنْ العار أن تنهى غيرك عن فعل معين وتأتي أنت بمثله، ومن العيب على مَنْ بيته من زجاجأن يلقي غيره بالحجارة.
كما يعلمنا الكتاب في (أم26: 27) ” مَنْ يَحفِرُ حُفرَةً يَسقُطُ فيها “.
هذا ما أكده أدوني بازَقَ عند قال:”كما فعَلتُ كذلكَ جازانيَ اللهُ”(قض1: 7).
وهذا ما سجله الوحي المقدس عن هامان الذي أراد أن يدمر مردخاى، مكتوب ” فصَلَبوا هامانَ علَى الخَشَبَةِ التي أعَدَّها لمُردَخايَ “(استير7: 10). وهذا يذكرني بما قاله الرسول بولس في (غلا6: 7) ” فإنَّ الذي يَزرَعُهُ الإنسانُ إيّاهُ يَحصُدُ أيضًا… لهذا نحتاج أن نحتاج أن يكون شعارنا وأسلوب حياتنا ما قاله الرب يسوع: ” فكُلُّ ما تُريدونَ أنْ يَفعَلَ الناسُ بكُمُ افعَلوا هكذا أنتُمْ أيضًا بهِمْ، “(مت7: 12).
خامساً: كُلَّ مَنْ لهُ يُعطَى فيَزدادُ (مر4: 25 مع مت25: 29)
قال الرب يسوع ” لأنَّ مَنْ لهُ سيُعطَى، وأمّا مَنْ ليس لهُ فالذي عِندَهُ سيؤخَذُ مِنهُ” (مر4: 25) وهذا ما نجده في مثل الوزنات (مت25: 29) وفي مثل الأمناء (لو19: 26).
القارئ السطحي لهذه الآية يتسائل في حيرة كيف يعطي السيد أكثر لمَنْ له؟! وكيف يأخذ ممَنْليس له ما عنده؟ أليس في هذا ظلم؟.
ألم يكن من العدل أن يأخذ ممن له، ويعطي لمَنْ ليس له؟ ولكن عندما ندقق النظر في الآية ونقوم بقراءتها قراءة متأنية في ضوء القرينة الكتابية نجد معناها كالآتي:” كل مَنْ له [أمانة] يُعطى ويزداد، ومَنْ ليس له [أمانة] فالذي عنده يؤخذ منه.
فالأمانة في الأمور الصغيرة تجهزنا وتؤهلنا للقيام بالأمور الكبيرة، وهذا ما نراه في مثل الوزنات عندما “جاءَ الذي أخَذَ الخَمسَ وزَناتٍ وقَدَّمَ خَمسَ وزَناتٍ أُخَرَ قائلاً: ياسيِّدُ، خَمسَ وزَناتٍ سلَّمتَني. هوذا خَمسُ وزَناتٍ أُخَرُ رَبِحتُها فوقَها. فقالَ لهُ سيِّدُهُ: نِعِمّا أيُّها العَبدُ الصّالِحُ والأمينُ! كُنتَ أمينًا في القَليلِ فأُقيمُكَ علَى الكَثيرِ. …وهكذا قال للذي أخَذَ الوَزنَتَينِ، أما الذي أخذ الوزنة الواحدة ولم يعمل ولم يربح بها شيئاً، جعل السيد يقول: خُذوا مِنهُ الوَزنَةَ وأعطوها للذي لهُ العَشرُ وزَناتٍ. لأنَّ كُلَّ مَنْ لهُ يُعطَى فيَزدادُ، ومَنْ ليس لهُ فالذي عِندَهُ يؤخَذُ مِنهُ.”(مت25: 14- 30).
نعم! الأمانة أهم صفة في العمل، فنرى في (مت24: 45) في مثل العبد الأمين” يسطر الوحي قائلاً:” فمَنْ هو العَبدُ الأمينُ الحَكيمُ الذي أقامَهُ سيِّدُهُ علَى خَدَمِهِ ليُعطيَهُمُ الطَّعامَ في حينِهِ؟”هنا نجد أن صفة الأمانة تأتي في مركز الصدارة … قبل الحكمة.
يؤكد هذه الحقيقة ما جاء في (مزمو101: 6) ” عَينايَ علَى أُمَناءِ الأرضِ لكَيْ أُجلِسَهُمْ معي. السّالِكُ طَريقًا كامِلاً هو يَخدِمُني”. في مرات البعض يأخذ هذه الآية ليدلل ويبرهن بها على عناية الرب بالأمناء، وكيف أن عين الرب بإستمرار عليهم يحفظهم ويضمنهم، ومع أن هذه حقيقة لا شك فيها، إلا أن الدارس لهذه الآية في قرينتها يجد أن داود الملك كان يحب الأمناء، وكان يبحث عنهم دائماً ليكونوا هم أفراد حاشيته ومستشاريه، والمقربين منه، والعاملين معه، والمسئولين عن المراكز الهامة والحساسة في مملكته.
والرسول بولس في وصيته لتيموثاوس يقول في (2تي2: 2) “وما سمِعتَهُ مِنِّي بشُهودٍ كثيرينَ، أودِعهُ أُناسًا أُمَناءَ، يكونونَ أكفاءً أنْ يُعَلِّموا آخَرينَ أيضًا”.
هذا وتعلمنا كلمة الله أن الأمانة يجب أن تكون إلى المنتهي … إلى مدى الحياة … إلى الموت… وبمعنى آخر حتى لو كلفتنا الأمانة الموت … الأمانة في كل شيء في القليل كما في الكثير … فالأمانة قيمة رائعة لا تتجزأ … ولا شك أن المكافأة للآمين مؤكدة فمكتوب:” كُنْ أمينًا إلَى الموتِ فسأُعطيكَ إكليلَ الحياةِ “(رؤ2: 10).