رسالة الميلاد
المطران كريكور اغسطينوس كوسا……….
إلى إخوتي الكهنة الأحباء والراهبات الفاضلات،
وأبناء الكنيسة الأرمنية الكاثوليكية في أبرشية الإسكندرية،
وإلى المؤمنين أبناء الكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية،
وُلِد المسيح ليفتدينا، وجاء ليصالحنا مع الله ومع الذات ومع بعضنا. فالميلاد هو بدء الفداء الذي هو سرّ المسيح والإيمان المسيحي، حيث كشف عن محبّة الله العظمى لنا، وقدّم ذاته قرباناً لأجلنا، ولا نحصل على نعمة الفداء إلاّ بالتوبة. فالإنسان لا يفتدي ذاته بذاتِهِ من خطاياه، لكنه يُفتدى عندما يتقبّل المغفرة التي يمنحه إيّاها الفادي.
في هذه الحقبة من الزمن ونحن نعيش سرّ الميلاد والتجسّد تتجه البشرية بالعقل والقلب نحو المسيح محور الكون والتاريخ وفادي الإنسان.
في هذه السنة تحتفل الكنيسة والعالم بسنة يوبيل الرّحمة الإستثنائي، الذي يحمل إلينا حقيقة إيمانية أولية: “الكلمة صار جسداً وحلّ فينا“ (يوحنا 14:1). هو الله الذي ننتظره يأتي إلينا كما يشرح لنا القدّيس بولس إلى العبرانيين. وهكذا كان القصد الإلهي مشبعاً بالمحبّة. فبالتجسّد أضفى الله بُعداً على الحياة البشرية.
عظمة سرّ التجسّد:
المسيح يسوع بتجسّده وإظهاره محبّة الآب يكشُف بجلاءٍ ووضوح الإنسان للإنسان ويبيّن له سمو دعوته ويعيد إليه ما شوّهته الخطيئة، ويرفع الطبيعة البشرية إلى مقامٍ عظيم: “بتجسّده انضم ابن الله إلى كل إنسان. لقد عمل بيدي الإنسان، وفكّر بعقلِ إنسان وعمل بإرادة إنسان، وأحبَّ بقلب إنسان… إنه فادي الإنسان (رسالة فادي الإنسان للبابا القدّيس يوحنا بولس الثاني رقم 8)”. “صار مصالحةً لنا لدى أبيه” (روما 11:5، وقولسي 20:1).
ولادة السيّد المسيح من عذراء، تجلّي جديد لأبوّة الله الذي اقترب مجدّداً من الإنسان، “الكلمة صار جسداً وحلّ فينا” (يوحنا 14:1). الله إله الخلق يظهر أيضاً إله الفداء والمحبّة التي هي أقوى من الموت والمستعدّة دائماً للمسامحة والذهاب إلى “الابن الضّال” للبحث عن تجلّي أبناء الله. وبذلك لا يستطيع الإنسان أن يعيش دون محبّة ورحمة ولا معنى لحياته إن لم تتوفّر له المحبّة والرّحمة والشفقة ويختبرهم بنفسه.
هذا هو البُعد البشري لسرّ التجسّد والفداء: إكتشاف عظمة وكرامة الإنسان الذي دخله في المسيح، أعطاه هذا الحقّ. ففي سرّ التجسّد يتم الفداء. وسرّ المسيح هذا هو رسالة الكنيسة والمسيح. فالمسيح هو المبدأ الثابت والمحور الدائم لهذه الرسالة: هو الغنى “الذي في متناول كل إنسان وثماره خيرٌ لكل إنسان”. حياة المسيح شهادة للحرية الحقّ: “إني ولدت وأتيت إلى العالم لأشهد للحقّ” (يوحنا 37:18)، وهو يدعو الكنيسة لتسجد بدورها بالرّوح والحقّ، “إن الله روح فعلى العِبادِ أن يَعبُدوهُ بالرّوحِ والحقّ” (يوحنا 24:4).
الميلاد ويوبيل الرّحمة:
إن كلمة يوبيل تعني الفرح، لا الفرح الداخلي فقط بل الفرح الذي يظهر ويشع في الخارج أيضاً، لأن مجيء ابن الله تمّ في الظاهر وعلى الملأ، وهو يُرى ويُسمع ويُلمس كما قال القدّيس يوحنا في رسالته الأولى: “ذاك الذي كان منذ البدء، ذاك الذي سمعناه، ذاك الذي رأيناه بعينينا، ذاك الذي تأمّلناه ولمسته يدانا من كلمة الحياة –لأن الحياة ظهرت فرأينا ونشهد ونبشّركم بتلك الحياة الأبدية التي كانت لدى الآب فتجلّت لنا – ذاك الذي رأيناه وسمعناه نبشّركم به أنتم أيضاً، لتكونَ لكم أيضاً مشاركةٌ معنا ومشاركتنا هي مشاركةٌ للآبِ ولابنه يسوع المسيح… ليكون فرحُنا تاماً.“ (يوحنا الأولى 3:1)، فيجدر إذاً أن تظهر في الخارج كل علامة فرح ينشئها هذا المجيء. وهذا دليل على أن الكنيسة تفرح بالخلاص وتدعو الجميع إلى الفرح الذي يذكّرنا بحدث عظيم ليس فقط لنا بل للبشرية جمعاء، وهو حدث سرّ التجسّد، أي سرّ دخول ابن الله تاريخ البشر، وصار إنساناً مثلهم ما عدا الخطيئة، وشاركهم في تحمُّل أثقال وأعباء حياتهم اليومية، سواء كانت فرحاً أو حزناً، جوعاً أو عطشاً، ألماً أو خيانةً ونكراناً للجميل.
أهداف اليوبيل:
إن أهداف اليوبيل هي روحيّة، وزمن اليوبيل زمن مقدّس يعني أن نعيش سنةً مميّزة بفرح الخلاص، وإرشادات الرّوح القدس، فيها تُمحى الخطايا، وتُغفر الذنوب، ويُبشّر الفقراء، ويعود البصر للعميان والحرية إلى المأسورين والمظلومين (لوقا 14:4-19)، وتنشر العدالة والسلام في البشرية على كافة مستوياتها وطبقاتها وأديانها، ويولد الكون والبشرية ولادةً روحيّة جديدة فيها ينتهي الزمن الأرضي ويبتدء الزمن الإلهي الأبدي.
رموز سنة اليوبيل:
أولاً: الباب المقدّس في الكاتدرائيات والكنائس والأديرة والأماكن المقدّسة. الكنيسة والهيكل يرمزان إلى علامة بيت الآب، والملكوت الموعود به، حيث يستقبل الله، بصفته أباً للجميع، أبناءه الذين يسيرون نحو المسيح بقوة الرّوح الفدس وبصحبة العذراء مريم. والمسيح يسوع هو الباب الكبير والطريق الوحيد للخلاصالذي فتح للناس الطريق إلى الآب. إنه الباب الذي علينا أن ندخل فيه إلى بيت الآب ومنه ندخل إلى الهيكل قدس الأقداس لنحتفل بسرّ الإفخارستيا، لنلتقي كشعب يجمعه الإيمان الواحد ولنكتشف معاًمعن
ثانياً: الغفرانات: التي، “هي عنصر تكويني من الحدث اليوبيلي” وهي تظهر ملء رحمة الله وحنانه الذي يأتي بملاقاة الجميع بمحبّته التي يُعبّر عنها، قبل كل شيء بمغفرة الخطايا.
والغفرانات تعبّر عن هبة الله التامة، هبة الرّحمة، وتغفر للخاطئ التائب من كل قلبه العقوبات الزمنية المتوجبة على الخطايا التي غُفِرت له بسرّ الاعتراف والمصالحة.
ثالثاً: أعمال المحبّة والرّحمة التي تُعلِّمنا إيَّاها الكنيسة لنكون:“رُحماء كالآب” لمساعدة الفقراء والمهمشين والمرضى والمضطهدين واللاجئين والذين هم في حروبٍ وصعوبات الحياة. والكنيسة تحاول في هذه السنة أن تبرز إحدى سماتها العميقة لتجعلها منظورة ومفهومة لدى الجميع. وهذه السمة هي الرّحمة، والقدرة التي لا حدّ لها على القبول والاستضافة والمصالحة والمسامحة والمغفرة لجميع الرجال والنساء، الكبار والصغار الذين هم بحاجة ماسة إليها.
والكنيسة أمّنا مدعوّة إلى اتباع المسيح الذي يشرح لنا في أمكنة عديدة من الإنجيل أنه أتى ليبحث عن الخطأة، والخراف الضائعة، والعناية بالمرضى، وتحرير المظلومين، وهكذا يكشف لنا وجه الله أبيه وأبينا “الغني بالمراحم“. وتُعلِّمنا أن نكون رُحماء بعدّة طرق وأساليب وأعمال جسدية وروحيّة:
رابعاً: الحج إلى الأماكن المقدّسة، وهو رمز قديم جداً للحياة المسيحية، بما له من جذور روحيّة، ويعني أننا أتينا من سرّ هو الله، ونحن في طريق العودة إلى هذا السرّ الذي هو الله.
نحن عابرو سبيل في الدنيا، ورفيق الطريق الهادي لنا هو السيّد المسيح الذي قال: “أنا هو الطريق والحق والحياة. لا يمضي أحد إلى الآب إلاّ بي“. (يوحنا 6:14).
فتعالوا جميعاً في رحلة حجنا نسير مع المسيح لنغيّر وجه الكون وننفخ في التاريخ روح الله ليتجدّد وجه الأرض.
أيُّها الإخوة والأبناء الأحباء:
“كونوا رحماء كما أن أباكم السماوي رحيم” (لوقا 36:6)
ننتهز جميعنا سنة يوبيل الرّحمة لنعيد النظر في حياتنا من خلال ولادتنا الروحية الجديدة مع المسيح وبالمسيح وفي المسيح بسرّ تجسّده وبالأسرار المقدّسة ونعمل على تعميق إيماننا بالله، ومبادرة بعضنا البعض بالمغفرة والمصالحة الصادقة النابعة من القلب، وتوثيق عرى التضامن والمحبّة فيما بيننا، لنتمكن ونحن متكاتفين متعاضدين لكي نسهم في المحبّة والرّحمة والشفقة إنقاذ بلادنا والعالم مما تتخبط فيه الشعوب والدول من حروب وصعوبات إقتصادية وسياسية وثقافية، ليحلّ السلام في شرقنا ليبقى بشفاعة العذراء مريم أمّ الله، أمّ الرّحمة والرأفة، أرض إيمانٍ وقداسة، وقيم وحرية، وسلام.
“المجد لله في العُلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرّة“ (لوقا 14:2)
السلام هو وديعة الله للبشر، سلامي أعطيكم، سلامي أستودعكم، وبشارة الملائكة لأبناء الأرض تردّدها سماؤنا منذ المغارة الأولى، وهو تحية الناس للناس، وأُنشودة تواصل مستمرة مدى الأجيال.
السلام الذي أتانا بيسوع المسيح ملك السلام دائم الحضور فينا، هو صورة حضوره الإلهي ومرآة لوجهه وانعكاس لصفائه، إنه عيدنا وفرحنا وسعادتنا وراحة ضميرنا، وبالإستمرار معه نعبر العقود والقرون ونلتقي بالآخر في ساحة تسقط أمامها الحروب والحواجز والحدود.
السلام نعمةٌ لا بد منها لمتابعة مسيرة البشرية في التاريخ وصيانتها وتحصينها عاملين على نموّها وتصويب مسيرتها من أجل حياة الإنسان وكرامته ومستقبله.
في مطلع يوبيل الرّحمة لنجدّد إيماننا بالمسيح وبإنجيله وتعاليمه الإلهيّة، وليكن يسوع سلامكم وقوّتكم في الحياة، ورجاءكم في الآخرة، وليمنحكم سلاماً بميلاده العجيب واطمئناناً لرفقته لكم في هذا الدهر، والدهر الآتي.
لتكن نعمة ملك السلام ربّنا يسوع المسيح مع جميعكم في هذا العام الجديد بفرح التلاقي والتعاون مع بعضنا لكي نتمم فينا إرادة الله.