ترصد عدسة الوحي المقدس صورة للرب يسوع وهو يقدم عظة على البحر في غاية الأهمية، والقوة، والروعة،… كانت السفينة منبره، ومنها ألقى رسالته، وقدم وصاياه لتلاميذه وسامعيه، وكان الغرض من حديثه هو علاج ظاهرة فقدان الذاكرة الروحية فمكتوب:” ثُمَّ ترَكَهُمْ ودَخَلَ أيضًا السَّفينَةَ ومَضَى إلَى العَبرِ. ونَسوا أنْ يأخُذوا خُبزًا، ولم يَكُنْ معهُمْ في السَّفينَةِ إلا رَغيفٌ واحِدٌ. وأوصاهُمْ قائلاً:”انظُروا! وتحَرَّزوا مِنْ خَميرِ الفَرِّيسيِّينَ وخَميرِ هيرودُسَ”. ففَكَّروا قائلينَ بَعضُهُمْ لبَعضٍ:”ليس عِندَنا خُبزٌ”. فعَلِمَ يَسوعُ وقالَ لهُمْ: “لماذا تُفَكِّرونَ أنْ ليس عِندَكُمْ خُبزٌ؟ ألا تشعُرونَ بَعدُ ولا تفهَمونَ؟ أحتَّى الآنَ قُلوبُكُمْ غَليظَةٌ؟ ألكُمْ أعيُنٌ ولا تُبصِرونَ، ولكُمْ آذانٌ ولا تسمَعونَ، ولا تذكُرونَ؟ حينَ كسَّرتُ الأرغِفَةَ الخَمسَةَ للخَمسَةِ الآلافِ، كمْ قُفَّةً مَملوَّةً كِسَرًا رَفَعتُمْ؟”. قالوا لهُ:”اثنَتَيْ عَشرَةَ”. “وحينَ السَّبعَةِ للأربَعَةِ الآلافِ، كمْ سلَّ كِسَرٍ مَملوًّا رَفَعتُمْ؟”. قالوا:”سبعَةً”. فقالَ لهُمْ:”كيفَ لا تفهَمونَ؟”(مر8: 13- 21مع مت16: 5- 12).
في هذه الكلمات التي فاه بها الرب يسوع نجد الكثير من الجواهر والكنوز اللاهوتية، ونرى العديد من الدروس الثمينة النافعة لحياتنا الروحية أذكر منها الآتي:-
أولاً: الرب يحذرنا من الرياء والمرائيين
حذر الرب يسوع تلاميذ في عظته من الرياء فمكتوب :”وأوصاهُمْ قائلاً:”انظُروا! وتحَرَّزوا مِنْ خَميرِ الفَرِّيسيِّينَ وخَميرِ هيرودُسَ”(مر8: 15). والمراد بالخمير هو “الرياء” كما هو واضح من (لو12: 1) ” تحَرَّزوا لأنفُسِكُمْ مِنْ خَميرِ الفَرِّيسيِّينَ الذي هو الرِّياءُ”.
والجدير بالذكر أن البشير متى لم يذكر خمير هيرودس، وذكر بدلاً منه (خمير الصدوقيين) (راجع مت16: 6) والأرجح أن الرب يسوع حذرهم من خمير كل من الثلاثة في مجمل عظاته.
لقد اختلف الفريسيون والصدقيون والهيرودسيون في أمور كثيرة من المعتقدات والتعاليم، ولكنهم اتفقوا واشتركوا جميعاً في صفة (الرياء). فلقد تظاهروا بما لا يعتقدونه، فأضحت تعاليمهم وأسلوب حياتهم كالخميرة التي تعمل خفية.
والرياء يأتي في بعض قواميس اللغة بمعنى التمثيل، والشخص المرائي هو الذي يُظهر خلاف ما يبطن، ويتلون بحسب الظروف المختلفة التي يجتاز فيها، فهو يمتلك العديد من الأقنعة التي يرتديها، بما يتناسب مع الدور المطلوب تأديته، فأضحى ظاهره مخالفاً لجوهره، مثل ذلك الشاعر الذي مضى طوال النهار يكتب شعره مدحاً في الفضيلة، وبات ليلته يمارس الرذيلة.
لقد أدان الرب يسوع بشدة أسلوب الرياء، فنراه يصب وابلاً من الويلات على المرائيين، وهذا ما نراه بوضوح في (مت ص23) حيث يقول ” ويلٌ لكُمْ أيُّها الكتبةُ والفَرِّيسيّونَ المُراؤونَ! لأنَّكُمْ تأكُلونَ بُيوتَ الأرامِلِ، ولعِلَّةٍ تُطيلونَ صَلَواتِكُمْ. لذلكَ تأخُذونَ دَينونَةً أعظَمَ… ويلٌ لكُمْ أيُّها الكتبةُ والفَرِّيسيّونَ المُراؤونَ! لأنَّكُمْ تُعَشِّرونَ النَّعنَعَ والشِّبِثَّ والكَمّونَ، وترَكتُمْ أثقَلَ النّاموسِ: الحَقَّ والرَّحمَةَ والإيمانَ. كانَ يَنبَغي أنْ تعمَلوا هذِهِ ولا تترُكوا تِلكَ….ويلٌ لكُمْ أيُّها الكتبةُ والفَرِّيسيّونَ المُراؤونَ! لأنَّكُمْ تُنَقّونَ خارِجَ الكأسِ والصَّحفَةِ، وهُما مِنْ داخِلٍ مَملوآنِ اختِطافًا ودَعارَةً. “(مت23: 14، 23، 25).
وعلى صفحات الوحي المقدس نجد الله يعبر عن كراهيته للرياء والكذب والنفاق فيقول ” رؤوسُ شُهورِكُمْ وأعيادُكُمْ بَغَضَتها نَفسي. صارَتْ علَيَّ ثِقلاً. مَلِلتُ حَملها. فحينَ تبسُطونَ أيديَكُمْ أستُرُ عَينَيَّ عنكُمْ، وإنْ كثَّرتُمُ الصَّلاةَ لا أسمَعُ. أيديكُمْ مَلآنَةٌ دَمًا” (إش1: 14، 15).
ويقول أيضاً:” هذا الشَّعبَ قد اقتَرَبَ إلَيَّ بفَمِهِ وأكرَمَني بشَفَتَيهِ، وأمّا قَلبُهُ فأبعَدَهُ عَنِّي”(إش29: 13).
وفي زمن عاموس يبدو أن هناك مجموعة كانت تشدو على أنغام الرباب، ولم تكن سوى أصوات جوفاء لا تمجد الله، فسجل الوحي في أسف شديد كلمات الرب “أبعِدْ عَنِّي ضَجَّةَ أغانيكَ، ونَغمَةَ رَبابِكَ لا أسمَعُ. “(عا5: 23)… ياه! لقد أصبحت الأغنية الحلوة في أذن الرب كضجيج، وأنغام الرباب لا يرغب في سماعها.
وفي أيام آساف جاء صوت الرب في (مز50: 16) “وللشِّرِّيرِ قالَ اللهُ:”ما لكَ تُحَدِّثُ بفَرائضي وتحمِلُ عَهدي علَى فمِكَ؟”. وكأن الرب يريد أن يقول: أيها الشرير كيف جاءت لك الجرأة والشجاعة لتتحدث بفرائضي دون أن يكون للكلمة التي هي كمطرقة تحطم الصخر أدنى تأثير على حياتك.
وفي إنجيل لوقا ص18 نرى عدسة الوحي المقدس تصور لنا الفريسي الذي صعد إلى الهيكل ليصلي ظاناً أنه بار وبلا خطية، غير أنه نزل ليس مبرراً ولكن مداناً أمام الله، ذلك لأن صلاته لم تكن سوى لوناً من ألوان الرياء.
إن الحقيقة التي لا يجب أن تغيب عن أذهاننا هي أنه من الممكن أن نخدع البشر ونغشهم، ونمثل عليهم الإيمان، لكن من رابع من المستحيلات خداع الله، كما أن الله لا يهمه المظهر بقدر ما يهمه الجوهر، وأنمقاييس الله أسمى بكثير مما نظن، وهذا ما قاله الرب لصموئيل، وهو مزمع أن يمسح أحد أبناء يسى البيتلحمي ملكاً:” فقالَ الرَّبُّ لصَموئيلَ:” الإنسانَ يَنظُرُ إلَى العَينَينِ، وأمّا الرَّبُّ فإنَّهُ يَنظُرُ إلَى القَلبِ”.”(1صم16: 7).
نعم! إن الإنسان في حاجة ماسة إلى الإختلاء مع الله ليرفع من أعماق قلبه الصلاة التي رفعها داود في القديم:” اختَبِرني يااللهُ واعرِفْ قَلبي. امتَحِنِّي واعرِفْ أفكاري. وانظُرْ إنْ كانَ فيَّ طَريقٌ باطِلٌ، واهدِني طَريقًا أبديًّا” (مز139: 23، 24).
ثانياً: الرب يريدنا أن نسلك بالإيمان لا بالعيان
يسطر الوحي أن التلاميذ” نَسوا أنْ يأخُذوا خُبزًا، ولم يَكُنْ معهُمْ في السَّفينَةِ إلا رَغيفٌ واحِدٌ “(مر8: 14). لكنهم فكروا بأسلوب يتنافى مع الإيمان، ولا يبرهن على أنهم إستفادوا من خبرات الماضي في مسيرهم مع الرب يسوع، فمكتوب ” ففَكَّروا قائلينَ بَعضُهُمْ لبَعضٍ:”ليس عِندَنا خُبزٌ”(مر8: 16). لذلك وبخ الرب يسوع أسلوب تفكيرهم فقال لهم :” لماذا تُفَكِّرونَ أنْ ليس عِندَكُمْ خُبزٌ؟ ألا تشعُرونَ بَعدُ ولا تفهَمونَ؟ أحتَّى الآنَ قُلوبُكُمْ غَليظَةٌ؟ “(مر8: 17).
وكأن الرب يقول للتلاميذ: أين إيمانكم بقدرتي؟! أين ثقتكم في محبتي ورعايتي لكم؟! أليس لكم سلام فىّ وأنا معكم؟! هل تظنون أنني سوف أعوزكم أي شيء وأنتم معي؟! هل أصنع لكم معجزة برغيف الخبز الذي معكم لكي تؤمنوا بي؟! هل فقدتم الذاكرة ونسيتم معجزات الإشباع التي أجريتها أمام عيونكم؟!
لقد تألم الرب من فقدان ذاكراتهم، فلقد كان الرب قد صنع أمامهم من وقت ليس ببعيد معجزة إشباع الأربعة الآلاف (راجع مر8: 1- 10)، ومعجزة إشباع الخمسة الآلاف (راجع مر6: 30- 44). ومع ذلك لم يتعلمواالدرس.
من أسف إن كثيرين من الناس يتعلقون بالماديات والمحسوسات، ويضعون شرطاً لإيمانهم وهو حدوثمعجزة، والرب يسوع ينظر لهم بألم شديد ويقول لهم:”لا تؤمِنونَ إنْ لم ترَوْا آياتٍ وعَجائبَ”(يو4: 48).
نعم! إن الذين يريدون أن يروا أولاً لكي يؤمنوا، لن يروا ولن يؤمنوا، وهذا ما أكده الرب يسوع في مثل الغني ولعازر، حيث نرى في الحوار الذي دار بين الغنى وإبراهيم، أن الغني يطلب من إبراهيم أن يمضي أحد الموتى ليحذر أخوته الخمسة لكي يتوبوا، حتى لا يذهبوا إلى عذاب الجحيم الذي فيه، لكن إبراهيم يقول: إنْ كانوا لا يَسمَعونَ مِنْ موسَى والأنبياءِ، ولا إنْ قامَ واحِدٌ مِنَ الأمواتِ يُصَدِّقونَ” “(لو16: 27- 31).
في يقيني أن الإيمان الحقيقي هو الإيمان بشخص الرب يسوع، الإيمان في قدرته سواء رأينا أو لم نرمعجزة.
وعندما نؤمن دون أن نرى، لابد أن نرى بعد ذلك كما قال الرب يسوع لمرثا “إنْ آمَنتِ ترَينَ مَجدَ اللهِ؟”. (يو11: 40).
نريد إيمان موسى المكتوب عنه في (عب11: 27) “بالإيمانِ ترَكَ مِصرَ غَيرَ خائفٍ مِنْ غَضَبِ المَلِكِ،لأنَّهُ تشَدَّدَ، كأنَّهُ يَرَى مَنْ لا يُرَى”.
نريد إيمان حبقوق الذي واجه الجدوب والقحط (الإنهيار الإقتصادي) بإيمان نموذجي فشدا قائلاً:” فمع أنَّهُ لا يُزهِرُ التِّينُ، ولا يكونُ حَملٌ في الكُرومِ. يَكذِبُ عَمَلُ الزَّيتونَةِ، والحُقولُ لا تصنَعُ طَعامًا. يَنقَطِعُ الغَنَمُ مِنَ الحَظيرَةِ، ولا بَقَرَ في المَذاوِدِ، فإنِّي أبتَهِجُ بالرَّبِّ وأفرَحُ بإلَهِ خَلاصي. الرَّبُّ السَّيِّدُ قوَّتي، ويَجعَلُ قَدَمَيَّ كالأيائلِ، ويُمَشِّيني علَى مُرتَفَعاتي”(حب3: 17- 19).
نريد إيمان خادم الملك الذي كان إبنه مريضا،ً وجاء إلى الرب يسوع، وطلب منه أن يشفي له ابنه، فقال له الرب يسوع: “اذهَبْ. ابنُكَ حَيٌّ”. فآمَنَ الرَّجُلُ بالكلِمَةِ التي قالها لهُ يَسوعُ، وذَهَبَ “.لقد آمن دون أن يرى المعجزة.(يو4: 46- 53). فرأى وتأكد أن معجزة شفاء ابنه تمت في اللحظة التي أمر فيها الرب بالشفاء.
إن الله يريد أن ينقلنا من العيان إلى الإيمان، لأن العيان هو الأسلوب الذي يميز مرحلة الطفولة، فالطفل يفرح بما تلمسه يداه، وتراه عيناه، ويتذوقه فمه، ولو حرمناه من متعة المحسوس بكي، وصرخ، وملأ الدنيا بشكواه.
لكن الإنسان الناضج يتعلم كيف يسعد بالمعنويات، وبأمور لا يراها بالعين المجردة، ولا يلمسها باليد، ولا يعرف مذاقها بالفم مثل الإيمان، والرجاء، والمحبة، والصداقة، والوفاء، والإخلاص، والإهتمام، والتقدير، والصبر … نعم! إن أروع الفضائل هي الغير منظورة.
ما أكثر الذين يريدون أن يعيشوا في المنظور، ولا يدركون جمال الحياة بالإيمان، مع أن الإيمان من أهم السمات التي تميز الإنسان عن باقي الكائنات الحية.
إن الإيمان يرى في الظلام … يري الشمس خلف الغيمة … يرى الله خلف الأحداث … يرى أنَّ كُلَّ الأشياءِ تعمَلُ مَعًا للخَيرِ للذينَ يُحِبّونَ اللهَ … وبدون إيمان لا يمكن إرضاء الله
نعم! نحتاج أن نعيش الإيمان قبل العيان فيكون شعارنا …”لأننا بالإيمان نسلك لا بالعيان”(2كو5: 7).
ثالثاً : علينا أن لا نخشى حتى لو كان ما بين أيدينا قليل
ترصد لنا عدسة الوحي المقدس في هذه القصة التلاميذ” لم يكن معهم في السفينة إلا رغيف واحد” فشعروا بالخوف، ونسوا أن بَرَكَةُ الرَّبِّ هي تُغني، ولا يَزيدُ معها تعَبًا”(أم10: 22).
هل نعترف أنه كثيراً ما نقترف نحن مثل هذه الخطية، ونخشى من الحاجة والعوز إذا كان ما بين أيدينا قليل.
كم نحتاج إلى إيمان رجل الله إليشع، الذي أحضر أحدهم إليه في يوم من الأيام باكورة عشرين رغيفاً، فطلب من خادمه (جيحزي) قائلاً:”أعطِ الشَّعبَ ليأكُلوا”. فقالَ خادِمُهُ:”ماذا؟ هل أجعَلُ هذا أمامَ مِئَةِ رَجُلٍ؟”. فقالَ:”أعطِ الشَّعبَ فيأكُلوا، لأنَّهُ هكذا قالَ الرَّبُّ: يأكُلونَ ويَفضُلُ عنهُمْ”. فجَعَلَ أمامَهُمْ فأكلوا، وفَضَلَ عنهُمْ حَسَبَ قَوْلِ الرَّبِّ”(2مل4: 42- 43).
علينا أن نثق أن الله يستطيع كل شىء ولا يعسر عليه أمر … هو يستطيع يدبر ويرتب كل احتياجات الرحلة، طالما هو قائد رحلة حياتنا، وإذا الشك يوماً بدأ يسأل: كيف؟ … ومن أين؟ فيجيب الإيمان: هذا هو عمل الله، وليس عملنا نحن.
وهل ننسى أرملة صرفة صيدا التي لم يكن في بيتها سوى مِلءُ كفٍّ مِنَ الدَّقيقِ في الكوّارِ، وقَليلٌ مِنَ الزَّيتِ في الكوزِ، تعمل بهما كعكة لها ولإبنها، وبعد ذلك يموتا من الجوع، لكن إيليا قال لها:”لأنَّهُ هكذا قالَ الرَّبُّ: إنَّ كوّارَ الدَّقيقِ لا يَفرُغُ، وكوزَ الزَّيتِ لا يَنقُصُ، إلَى اليومِ الذي فيهِ يُعطي الرَّبُّ مَطَرًا علَى وجهِ الأرضِ”(1مل17: 14).
وماذا كانت تمتلك المرأة الأرملة التي من نساء بنى الأنبياء؟ التي جاءت إلى اليشع تحكي شكواها هل كانت تملك أكثر من دهنة زيت في بيتهما؟ لكن الرب بارك وسدد كل احتياجها وديونها، وعاشت حياة كريمة بعد ذلك (2مل ص4).
علينا أن لا نخشى حتى لو كان ما بين أيدينا قليل… كيف لا؟! فهل كان يمتلك موسى أكثر من عصاه وهو يقود شعب الله؟!.
وكم كان تعداد جيش جدعون في مواجهة ومحاربة المديانيين؟!، ألم يقل له الرب:” بالثَّلاثِ مِئَةِ الرَّجُلِ الذينَ ولَغوا أُخَلِّصُكُمْ وأدفَعُ المِديانيِّينَ ليَدِكَ “(قض7: 7).
وهل ننسى شمشون الذي قتل ألف رجل بلحي حمار؟!(قض15: 15، 16).
وماذا عن يهوشافاط أمام الجمهور الكثير من جيوش موآب وعمون … التي كانت تعاديه وتحاربه.
ألم يعطهم الرب أنتصاراً ساحقاً على الأعداء؟!(2أخ20).
وماذا كان يمتلك داود عندما ذهب لمبارزة جليات الجبار؟! … ترسم لنا ريشة الوحي داود وهو يمسك بمقلاعة البسيط، ويضرب جليات وينتصر عليه انتصاراً غير مسبوق “(1صم17: 50).
حتى في خدمتنا، على كل مؤمن أن لا يستصغر وزنته، بل علينا أن نستثمر أي وزنة وضعها الله في حياتنا، ولا شك أن الرب سيعمل بها عجباً.
كيف لا؟! ألم يختر الرب يسوع تلاميذه أغلبهم من الصيادين، والبسطاء، وإستطاع أن يفتن بهم المسكونة، وحملوا رسالته إلى كل بقاع الدنيا؟!.
ألم تكن الفتاة الصغيرة المسبية سبب بركة في شفاء نعمان السرياني رئيس جيش ملك أرام؟! (2مل ص5).
ألم تستخدم طابيثا رأس مالها والذي عبارة عن (إبرة) في صناعة ملابس لكساء الفقراء والمحتاجين؟! (أع9).
وهل إستهان الرب بالمرأة الأرملة التي قدمت الفلسين؟!ألم يمدحها وقال أنها أعطت أكثر من الأغنياء؟! (لو21).
ألم يشجع الرب دورنا في خدمته حتى ولو بكأس ماء بارد ووعدنا أنه لا يضيع أجره؟! (مت10).
نعم! عندما نضع القليل الذي معنا بين يدي الله، سوف يباركه ويعمل به الكثير.
رابعاً: علينا أن نستعرض احتياجاتنا على الرب
يبدو من القصة أن المشكلة التي تعرض لها التلاميذ كانت أكبر من إمكانياتهم، إذ لم يكن معهم ما يسد جوعهم فمكتوب “ونَسوا أنْ يأخُذوا خُبزًا، ولم يَكُنْ معهُمْ في السَّفينَةِ إلا رَغيفٌ واحِدٌ “(مر8: 14).
لقد حاولوا مع أنفسهم، ومع بعضهم البعض البحث عن حل للمشكلة لكنهم لم يصلوا إلى حل … ويبقى السؤال: لماذا لم يفكروا في طرح المشكلة على الرب يسوع وهو معهم في السفينة؟! هل فقدوا الذاكرة، ونسوا معجزات إشباع الآلاف التي صنعها الرب يسوع.
أليس هذا ما حدث مع شعب الله في القديم؟ فبعدما صنع الرب العديد من المعجزات وأعطاهم أن يعبروا من العبودية لم يفهوا نعمة الله، ولا أدركوا محبته لهم، ولا قدرته على إنقاذهم ونسوا كل ما فعله معهم فتذمروا على قيادة الله لهم لذلك سطر عنهم المرنم (106: 7، 13، 21، 22) ” آباؤُنا في مِصرَ لم يَفهَموا عَجائبَكَ. لم يَذكُروا كثرَةَ مَراحِمِكَ، فتمَرَّدوا عِندَ البحرِ، عِندَ بحرِ سوفٍ… أسرَعوا فنَسوا أعمالهُ. لم يَنتَظِروا مَشورَتَهُ…. نَسوا اللهَ مُخَلِّصَهُمُ، الصّانِعَ عَظائمَ في مِصرَ… وعَجائبَ في أرضِ حامٍ، ومَخاوِفَ علَى بحرِ سوفٍ”.
وهل أختلف اليوم عن الأمس، فكم من مرة في مشاكلنا ومتاعبنا واحتياجاتنا نذهب هنا وهناك نطرق كل أبواب البشر وليس من مجيب، وننسى وعود الله الصادقة والأمينة لنا، ذاك الذي قال:” اِسألوا تُعطَوْا. اُطلُبوا تجِدوا. اِقرَعوا يُفتَحْ لكُمْ”(مت7: 7).
ياه ! كم كان حزقيا أكثر من رائع عندما استلم رسائل تهديد من سنحاريب مكتوب:” فأخَذَ حَزَقيّا الرَّسائلَ مِنْ أيدي الرُّسُلِ وقَرأها، ثُمَّ صَعِدَ إلَى بَيتِ الرَّبِّ، ونَشَرَها حَزَقيّا أمامَ الرَّبِّ”(2مل19: 14).
لاشك أن حزقيا استشعر الخطر، وأحس بالمهانة، وأمتلأ بالغيرة على مجد الله، فذهب إلى بيت الله في خشوع وإتضاع وصلاة وعرض الأمر على الرب، فجاءته نجدة السماء، وضرب ملاك الله في ليلة مائة وخمسة وثمانين ألفاً من جيش سنحاريب، وغذ هم في الصباح جثث هامدة، وإذا بالطاغية يعلم أن ” الرَّبُّ يُقاتِلُ عنكُمْ وأنتُمْ تصمُتونَ”(خر14: 14). وإننا نستطيع أن نغني الأغنية الجميلة التي تقول ” لَوْلا الرَّبُّ الذي كانَ لنا..لَوْلا الرَّبُّ الذي كانَ لنا عِندَما قامَ الناسُ علَينا، إذًا لابتَلَعونا أحياءً”(مز124: 1-3).
نعم! علينا أن ندرك أن الله شريكنا في كل شيء، وأنه من واجبنا أن نضع كل الأوراق التي تضايقنا وتزعجنا وتقلقنا بين يدي الشريك الذي معه أمرنا، ونحن نستطيع في كل الظروف أن نؤكد للعالم أن قوتنا في الشريك الذي لا يمكن أن يتخلى عنا.
قال أحدهم: إن الناس في مواجهة مشكلات الحياة، وصعاب الزمن ثلاث عينات.
العينة الأولى
عندما تجتاز في مشكلة معينة، تنظر إلى المشكلة فقط، وتتوقف عندها كثيراً، وتشعر بصدمة عنيفة،وتستغرق في المشكلة، وتصاب بالإحباط واليأس، وعندئذ تفشل وتنهار وتضيع، هذه العينة لم تختبر حياة الإيمان بعد.
العينة الثانية
وهي العينة التي تنظر إلى الله فقط، دون التفكير في المشكلة، ويتجاهلون وجود مشكلة، ويغّيبون عقولهم،وهذه صورة من صور التواكل، وعدم الإكتراث، والسلبية، وعدم الإهتمام، وهذا أيضاً أسلوب غير صحيح.
العينة الثالثة
وهي العينة التي تنظر إلى المشكلة، ولكن بعيون الرب، وتثق وتؤمن أن الله لم يعطنا روح الفشل، وبالتالي تشعر بسلام في قلب المشكلة، وتثق أن الله سيتدخل ويقدم الحل في وقته، وأن الله سيخرج مِنَ الآكِلِ أُكلٌ، ومِنَ الجافي حَلاوَةٌ”(قض14: 14).
وفي نفس الوقت تقوم بالدور الذي يجب أن تقوم به على أكمل وجه.
خامساً: رعاية الرب لنا تبقى طول المدى
إن الرب يسوع عندما تحدث مع تلاميذه عن إهتمامه بهم في الماضي، وذكرهم بمعجزة إشباع الأربعة آلاف، ومعجزة إشباع الخمسة آلاف، وبخهم في همسة عتاب على فقدان الذاكرة الروحية وقال لهم: “ألكُمْ أعيُنٌ ولا تُبصِرونَ، ولكُمْ آذانٌ ولا تسمَعونَ، ولا تذكُرونَ؟” يقول لهم: “كيفَ لا تفهَمونَ؟”(مر8: 21).
وكأنه يقول لهم مَنْ إهتم بكم في ماضيكم كيف لا يهتم بكم في حاضركم ومستقبلكم؟! … لعل هذا ما يحدث معنا أيضاً، أننا نخاف من الغد، ومن غدر الأيام، ومن تقلبات الزمن، وننسى رعاية وعناية الله بنا عبر الزمان، ولهذا يقول المرنم داود ” بارِكي يا نَفسي الرَّبَّ، ولا تنسَيْ كُلَّ حَسَناتِهِ. “(مز103: 2)
اعتقد أن داود سطر كلمات هذه الترنيمة بعدما استرجع ذكرياته عبر مشوار حياته مع الله لقد كان يؤكد هذا المعنى مراراً وتكراراً وهو يقول: ” الرَّبُّ راعيَّ فلا يُعوِزُني شَيءٌ “(مز23: 1)… “اتَّقوا الرَّبَّ يا قِدِّيسيهِ، لأنَّهُ ليس عَوَزٌ لمُتَّقيهِ. الأشبالُ احتاجَتْ وجاعَتْ، وأمّا طالِبو الرَّبِّ فلا يُعوِزُهُمْ شَيءٌ مِنَ الخَير”(مز34: 9، 10)… ” كُنتُ فتىً وقد شِختُ، ولم أَرَ صِدِّيقًا تُخُلِّيَ عنهُ، ولا ذُرِّيَّةً لهُ تلتَمِسُ خُبزًا”(مز37: 25).
نعم! هذا ليس إختبار داود فقط، بل هو اختبار كل مؤمن على مر الأجيال والعصور، فهذا ما سجله أبو الأسباط حينما قال:” اللهُ الذي رَعاني منذُ وُجودي إلَى هذا اليومِ”(تك48: 15).
وهذا ما أعلنه موسى للشعب عند مسيرته في الصحراء ” الآنَ أربَعونَ سنَةً للرَّبِّ إلَهِكَ معكَ، لم يَنقُصْ عنكَ شَيءٌ”(تث2: 7) ثم قال عن الأرض التي انتقلوا إليها “لا يُعوِزُكَ فيها شَيءٌ”(تث8: 9).
هذا ما أكده الرب يسوع لتلاميذه ولنا حينما قال لهم: “حينَ أرسَلتُكُمْ بلا كيسٍ ولا مِزوَدٍ ولا أحذيَةٍ، هل أعوَزَكُمْ شَيءٌ؟”. فقالوا: “لا”(لو22: 35).
كيف لا؟! وقد وعدنا إلهنا ووعده أكيد، عندما قال:”وها أنا معكُمْ كُلَّ الأيّامِ إلَى انقِضاءِ الدَّهرِ”(مت28: 20).
كيف لا؟! ومكتوب عن إلهنا أنه ” هو هو أمسًا واليومَ وإلَى الأبدِ “(عب13: 8).
فهو” عِمّانوئيلَ” الذي تفسيرُهُ: اللهُ معنا”(مت1: 23). معنا في كل ظروف الحياة، في النجاح والفشل، في الصحة والمرض، في الربح والخسارة، في الرحب والضيق، في القوة والضعف، في شبابي وفي شيبتي.
ولهذا فلا عجب أن كان المؤمن وهو يخطو نحو المستقبل نرى قلبه يمتلئ بالثقة، ونفسه بالرجاء، وفمه بالتسبيح.
نعم! ما أعظم إلهي، فالماضي يشهد عن أمانته ومحبته، والحاضر يفخر برعايته ومعيته، والمستقبل في ضمان بين يديه الأمينتين.