أَحَبّ رجل إمرأةً كانت لديها بقعة في عينها. تزوجها دون أن يدرك هذا العيب، عاشا معاً في محبة بضعاً من السنين ولكن بعد ذلك بدأ حبّه لها يتضاءل، فسألها ذات يوم: “متى ظهرت هذه البقعة في عينك؟” أجابته: “في اللحظة التي نقص فيها حبّك لي” (من أمثلة الصوفية).
إذا لاحظنا المحبّين والمتطوعين الذين يخدمون المهمّشين والفقراء والمرضى، نجدهم يرون جمالاً فريداً في المشوّهين وذوي العاهات المختلفة، ونجد أيضاً هذه النظرة بين الزوجين عندما يحيا معاً في حبٍ صادق، فكل واحد منهما لا يرى إلا ماهو جذّاب وجميل ورائع في الآخر. لأنه بدون الحب يصبح كل شيء رمادياً وقبيحاً ومزعجاً، حتى ولو كان العيب طفيفاً وساذجاً سيؤدي حتماً إلى عدم تحمّل الآخر وقبوله.
لذلك تُعلّمنا حكمة الحب أن نذهب إلى ماوراء العين والذكاء والحواس والعقل لكي ننظر بطريقة أعمق وخلاّقة قادرة على اكتشاف ما هو جميل وحسن.فالمحبة أمرٌ عظيم، وخيرٌ أعظم لا يوازيه شيء في هذه الدنيا، تُخفف دون سواها كلّ ما كان ثقيلاً، وتحمل الأعباء، كما أنها تُبدّل المرارة إلى عذوبة وحلاوة. كلُّ مَن يُحِب، يهتم بالأشخاص قبل الأشياء وهذا ما كانت تتغنّى به إحدى المطربات من كازابلانكا تحت عنوان (قليلاً من الحظ): “أعطني يا رب قليلاً من الحظ …. نصيبي شحيح والريح عنيف يؤلمني. أنا لا أريد قصوراً من ذهب، لكن يكفيني ركن صغير دافيء بقرب المدفأة. إمنحني يارب، شخصاً يُحبّني حقاً وأنا سأُهديه كل كياني …”. هذه المرأة تطلب من الله عطية ًمتواضعة لكنّها عظيمة، بل بالأحّرى هي النعمة الفريدة والضرورية، أي الحُب. فبالنسبة لها لا فائدة من القصور المذهّبة والرخاء والرفاهية إذا كان القلب خاوياً، أو لا يوجد معنى للحياة أو عدم وجود شخص نُكرّس له أنفسنا حتى نستطيع أن نُكمِل مسيرة الحياة، لأن ما سيبقى هو ما نُجيد حبّه، أما الباقي فيُعتَبر نفايةً، ولا يستطيع أحدٌ مهما كان أن يسرق ما نجحنا في حبّه، لأن ثروتنا الحقيقية هي ما أحببناه فعلاً. كل شيء يزول مع مرور الزمن وخاصةً بالموت، لكن الحُب هو الشيء الوحيد الذي لن يسرقه منّا أحدٌ لأنه قوي كالموت.
الغالبية العظمى من الناس تهتم بالميراث المادي للأبناء والأحباب حتى تؤَمّن حياتهم المستقبلية، لكن الوَقْف الأمثل والباقي هو الحب، والذي يُعتبر أثراً للخير والسخاء والعطاء الذي تركناه في مسيرة حياتنا على الأرض. فالمحبة لا نهاية لها، إذاً لا تسأل السماءَ بإلحاحٍ وبلا نتيجة: “ما هو طريقي؟” اِلتَزِم بالحب. وعندما تُحب، ستكتشف طريقك، وستحصل على السلام الحقيقي.
ويقول القديس أغسطينوس في هذا الصدد: “ليكن فيك جذور المحبة، وبواسطتها لن تفعل إلا الخير”. وحينئذ ستتوارى وتندثر كل الهموم والضيقات التي تعرقل طريقك، وسيحل محلّها السلام والهدوء والراحة والطمأنينة. ونقرأ في سفر الأمثال: ” أما سبيل الأبرار فمِثل نور الفجر الذي يزدادُ سطوعاً إلى رائعة النهار”. فالمحبة تريد أن تكون حرّة بعيدةً عن أهواء الدنيا بأسرها، ولا تُقيّدها المنافع إذا تيسَّرت، لا شيء أعذب من المحبة ولا أقوى منها، ولا شيء أسمى وأكمل وأفضل في السماء وعلى الأرض، لأن المحبة صدرت عن الله تعالى.
كم من الوعود بين العشّاق بالحب الأبدي لبعضهم البعض لكنها خُذلت بعد فترة وجيزة؟ ومن الممكن أن ينقلب هذا الحب إلى بغض أبدي ومقاطعة دائمة بلا رجوع، فالزمن هو الحَكَم الحقيقي لمسيرة الحُب. ياليتنا نُصبح صادقين في وعودنا للآخر حتى لا تتأثر بأي عواصف أو تقلبات خارجية. فالحُب هو روح الإيمان ولا يولد أبداً من الخوف لأنه يطرده خارجاً، وليست المكافأة من الطرف الآخر هي التي تجعله ينمو ويزدهر، لأنه بذلك سيصبح حباً مبنياً على المصلحة الشخصية فقط. فالحُب يزدهر في ظل الحوار والعطاء، والإيمان هو إجابة للحب المنطلق والخالي من المنافع المادية. إذاً، كل ما نقوم به عن حُب، يُصبح عظيم الفائدة مهما صغر شأنه. تَعْظُم أعمالنا إذا عظُمت محبتنا ومَنْ كانت فيه المحبة الكاملة الحق، لا يطلب ذاته في أي من الأمور، بل كله لمجد الله.
كل وصية تصبح هيّنة لمن يُحب، لأنه عندما نحب لن نشعر بالتعب. فالحُب هو واقع عجيب يحمل في طيّه مَلْحاً وعسلاً في ذات الوقت، لأنه يُعطي طعماً لحياة لا معنى لها، ويُقدّم حلاوة لواقع مرير. إذا فرضنا سلطان الإلزام فقط على الآخرين، سيتحول كل واجب عائلي أو إجتماعي إلى مجموعة أفعال جامدة ومرهقة. وإذا نقص الحُب، سيظل القانون فقط وتكف الحياة عن العطاء وينطفأ النور والدفء والجمال، لكن إذا كانت هناك شعلة من الحُب، ستضيء كل الأيام وتُنعشها، ولن نخاف من مواجهة الصعوبات، وسيؤول بنا الأمر إلى تحمّل التعب والمشقات ويصبح كل إلتزام أمراً هيّناً.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: ” ليس الجمال هو الذي يمنح الوجه قبولاً، ولكن نظرة الحب إليه”. فالمُحِب يرى في وجه الآخر جمالاً وضياءً ووسامة حتى ولو كان غير مرضي لدى الآخرين أو يرون فيه خلاف ذلك. لا حياة في الحُب من دون ألم، ومَن ليس على إستعداد تحمّل كل شيء والثبات عند مشيئة الحبيب، لا يستحق أن يُدْعَى مُحِبّاً. ويجب على المُحِب قبول جميع الأمور الصعبة من أجل الحبيب ولا يتخلّى عنه وقت الشدائد.
إن المُحِب الحقيقي لا ينظر إلى هبة المَحبوب ولا يلتفت إلى ثمن العطية بقدر حبّ مُعطيها. فعلى سبيل المثال، مَن لا يعرف اللغة العربية لا يستطيع أن يفهم من يتحدّثها، ومَن لا يعرف اللاتينية، من المستحيل أن يستوعب ما يُقال أو يُكتب بهذه اللغة؛ هكذا أيضاً تصبح لغة الحُب بربرية بالنسبةِ لمَن لا يُحِب، لكن الذين يُحِبّون حقاً يفهمون هذه اللغة ويعيشونها ويطبّقونها من خلال أعمالهم الصالحة. عندما نذهب إلى بلاد الغربة ونكتشف عدم وجود لغة الحُب هناك، نشعر بالوحدة والعزلة وعدم فهم الآخرين لنا، لكن إذا وُجِدَ الحُب سننفتح على الآخرين ونتحاور معهم ونعانقهم. وينصحنا مكسيموس المُعَرّف في هذا الصدد قائلاً: “إفعل المستحيل لتُحِب كل إنسان. إذا لم تكن قادراً على هذا، فعلى الأقل لا تكره أحداً. ولكن إن لم تستطيع فعل ذلك، فأنت غير قادر على التخلي عن أشياء العالم. لذلك يجب أن نُحِب كل شخص من كل قلبنا، ولكن نضع رجاءنا في الله وحده. أحباب الله غير محبوبين من غالبية الناس، بالرغم من حبّهم للجميع”. نكتشف هنا الخطوة الأولى للحُب وهي ألّا نكره أحداً. والحُب يتطلب منّا أن نتخلّى عن أشياءٍ كثيرة، وخلاف ذلك لن نُصبح قادرين على التضحية والعطاء بسخاء. فالحُب يمحو كل مصلحة شخصية ولا ينتظر المُقابِل ونبعه هو الذي يُحَب باسمه.
ويجب علينا أن نُحب الأعداء أيضاً. فالله تعالى وضع في قلوبنا بذرة الحُب، لذا يجب علينا أن نحرثها بدقة، ونُطعِمها بعناية حتى تصل إلى مرحلة النضج. إذاً، ليس المهم أن نُخاطب العالم بلغاته، بل أن نخاطب الناس بلغة الرباط المقدس أي المحبة، لأن عبقرية العقل تخلق الحسد، أما عبقرية القلب تخلق الحُب.