تحدثنا في المقالة السابقة عن الإحتياجات الداخليةو العوامل الخارجية لدي الإنسان و التي تدفعه للإيمان بوجود قوة عليا كلية و مطلقة خارج هذا الكون. نستكمل معاً كيف تطور مفهوم الايمان منذ عصور ماقبل التاريخ و حتي الآن.
قد عرفنا ان بذرة الايمان نشأت داخل الانسان بسبب الصراع الالهى الطبيعى و وجود الانسان المشكل، و نمت داخل الانسان هذه البذرة بسبب احتياجات داخلية جعلته يتطلع الى ما وراء الطبيعة و اصل الوجود المطلق بالاضافة الى عوامل اخرى خارجية هى حصيلة التأمل و الاستقرار التى عمقت فى داخله الايمان بهذا المطلق.
هذه البذرة الايمانية المتنامية استمرت من بداية البشرية الى وقتنا هذا و ان كانت قد تطورت لاشكال عدة و اتخذت مفاهيم متغيرة الا انها استمرت موجودة منذ بداية البشرية حتى الآن فوراء كل حضارة قائمة معتقد دينى يسير مجرى التاريخ .
لم ترتبط هذه المعتقدات الدينية بوجود الامبراطوريات الكبرى لان المعتقدات الدينية لم تسقط مع سقوط هذه الامبراطوريات التى اعتمدت على سيطرة الاقلية على شعوب مختلفة و تقليل فرص الابداع و السلام فكان سقوطها سريعا لكن المعتقدات الدينية هى التى استمرت و لم تندثر و حتى فى الفترات التى سقط فيها كيان الدولة السياسى المرتبط بالدين اعتبرت البشرية ان هذا الفشل السياسى و السقوط الحضارى هو فشل دينى ايضا لذا فان معظم الحضارات فى التاريخ القديم قد فصلت ما بين المعتقد الدينى و كيان الدولة السياسى و لعل هذا كان سببا هاما فى ادراك اهمية الفصل بين الدين و السياسة فيما بعد.
· عادة يمكن تقسيم المعتقدات الدينية الى مرحلتين فى تاريخ البشرية:
* المرحلة الأولى:
النظريات التطورية و هى تشمل حقبات مختلفة بداية من عصور ما قبل التاريخ حتى مرحلة الاستقرار و نشأة المعتقدات الدينية المختلفة
* المرحلة الثانية:
النظريات الاعتقادية و قد مرت باطوار مختلفة للوصول الى المعرفة الالهية و وجود الكتب المقدسة و ارتبطت بالاستقرار الانسانى و نشأة الحضارات فى دول عدة
المرحلة الأولى
i. النظريات التطورية
في هذه المرحلة كان انغماس الانسان البدائى بالطبيعة و ادراكه ان هناك قوى مسيطرة على الغرائز الطبيعية و هناك الطاقة المقدسة التى تتحكم فى القوى الغير مرئية ( الهواء – الرياح – الحرارة ..) و نزوعه للتأمل فى مظاهر الكون و ظاهرة بعث الحياة من جديد اوجد الانسان البدائى لنفسه تفسيرات مختلفة لمفهوم العقيدة الدينية:
1. التفسير المثالى المطلق: الذى يعتبر تطورا من الانغماس في الطبيعة بالكامل حتى الوصول للتحرر الكامل للامور الروحية في النظريات الاعتقادية فيما بعد و كان للاحتياجات الداخلية داخل الانسان البدائى بالايمان بفكرة المطلق ما وراء الطبيعة عامل أساسى لهذا التفسير.
2. التفسير الطبيعى: الذى جعل العبادات و المعتقدات الدينية قاصرة على الطبيعة التى يعيش فيها الانسان كما رأينا فى عصر الصيد حيث ان الاله هو سيد الحيوانات او مع بداية عصر الزراعة الذى تحول فيه مفهوم الاله ليكون هو المسئول عن خصوبة التربة و الأرض.
3. تفسير حيوى: الذى اعتبر فيه الانسان أن عبادة الارواح الفردية بالاخص تلك التى يراها فى احلامه بعد موتها هى الاساس الذى بنى عليه معتقداته.
4. تفسير (ما قبل الحيوى): الذى يرى ان الارواح البشرية متشابهة و لا فرق بينها فتركزت عبادته على روح كلية واحدة تسرى في الوجود كله و تسيطر على البشرية و مصير الانسان.
5. التفسير الاجتماعى: لعبت العقيدة الدينية في العصور الأولى دورا هاما فى تحقيق الفائدة للمجتمع الذى يضم اجناسا مختلفة او على المستوى الفردى.
بما ان العقيدة الدينية كانت تعتبر قوة تمكن المعتقد فى النفوس و مسيطر اول على الطبيعة الانسانية تم الربط ما بين وجود هذه العقيدة الدينية و تحقيق مفاهيم المساواة و العدل، الحقوق.
و الواجبات، حماية الضعفاء من بطش الاقوياء فى وسط هذه المجتمعات فاصبحت العقيدة الدينية بمثابة الدستور الفطرى الأول الذى نشأة عليه هذه المجتمعات.
و على المستوى الفردى فان وجود هذه العقيدة الدينية اوجدت الصلة ما بين احتياجات الانسان الداخلية العقلية و الذهنية و سموه عن بقية الكائنات و بين الذات الالهية المطلقة الكائنة ما وراء الطبيعة فاعطته احساسا قويا بالراحة و السلام لانها لبت هذه الاحتياجات الداخلية و حولت مخاوفه لآمال و شعوره بالقلق و الخوف الى الاحساس بالامان و السلام و كانت هذه هى الخطوة الاولى لسير البشرية نحو التطور و الاستقرار.
مراحل التعبير عن النظريات التطورية:
1. تعدد الالهة (Polytheism): و فيها اعطى الانسان البدائى رموزا مختلفة لقوى الطبيعة الغير المرئية فربطها بطقوس مختلفة غامضة و ركز الانسان فى عبادته على ارضاء هذه الالهة التى تحقق له منفعة او قوة و تجنب اذى الألهة الأخرى التى تسبب له الشر او تحمل الاذى بين جوانبها.
2. التمييز او الترجيح (Henotheism): و هى مرحلة ظهرت اكثر وضوحا عندما تبلورت الاحتياجات الداخلية و العوامل الخارجية في اتجاه المطلق الكلى، فبنيت هذه المرحلة على فكرة تمييز او ترجيح اله اعظم بمثابة القوة الخفية الغير محسوسة تنبثق منه الهه صغيرة مختلفة لها مهام خاصة سواء لفائدة او عقاب البشرية.
3. مرحلة الوحدانية (Monotheism): و فيها تم اختزال اطوار الالهه المتعددة الى وجود خالق واحد او اله واحد مطلق هو مصدر الوجود و محركه و يعبر عنه برموز مختلفة.
* و نظرا لان المراحل الثلاثة السابقة كانت تسير و تتدرج من التعددية الى الوحدانية المطلقة و من الطبيعة المجردة إلى التحرر منها نحو قوة أعظم نشأة عند الانسان البدائى فى هذه المراحل الثلاث فكرة امتزاج هذه المعتقدات الدينية بالأساطير.
أسباب ربط العقيدة الدينية بالاسطورة:
لشرح مفاهيم غامضة عن قوى الطبيعة و القوة الخفية التى تتحكم فيها لتصبح أكثر وضوحا لديهم و الانسان البدائى كان اشبه بطفل صغير واسع الخيال.
اعطاء و صبغ المفهوم الرمزى من خلال هذه الاساطير على المفاهيم الدينية و الاجتماعية التى تعبر هذه المعتقدات عنها.
تثبيت مفاهيم دينية و ربطها بالرمز لكى تصبح تقليدا متورثا عبر الاجيال المختلفة.
اضفاء مفهوم الأسطورة على العقيدة الدينية و ما تتضمنها من ابعاد مبهمه و غامضة تعطى بعدا اعمق لهذه العقيدة الدينية.
· مراحل تعدد الآلهه و تطورها جعلت الأنسان البدائى يستدر بركاتها و خيرها و حمايتها له من الاخطار المختلفة و نتيجة لتطور التفسير الاجتماعى عن العدل و المساواة برزت فكرة النذور و التعاويذ و التقدمات لارضاء هذه الألهة.
· نظرا لقصور مفردات اللغة لدى الشعوب البدائية عما هى الآن كان التعبير الأكثر شيوعا عن معتقداتهم الدينية هو تعبير حركى او باستخدام الاصوات البشرية مع استعمال ادوات مختلفة للتعبير عن طقوسهم و عباداتهم
· فى محاولة الانسان البدائى للسيطرة على الطبيعة و ترويضها و ايعاذ ذلك إلى وجود قوة خفية و طاقة مقدسة تحميه من هذا الخطر، اعتبر الانسان ان هذه القوة هى التى تحدد مصيره و تتحكم في وجوده فكان لابد من ارضائها سواء بتقديم القرابين او التضحيات البشرية و القيام بعبادات و طقوس مختلفة التى من شأنها ارضاء هذه القوة.
سنتناول في المقالة القادمة دراسة المرحلة الثانية فيما يعرف بالنظريات الإعتقادية.