الانفصال الشبكي هدد عينه الوحيدة بالعمي.. والرب أنقذه في اللحظات الأخيرة
خمس حياته في علاجات لعينيه.. ولم يعد باق إلا أن نصلي من أجله
عمليات إزالة المياه البيضاء ليست سببا مباشرا للانفصال.. وإن حدث فبنسبة لا تتجاوز 2% في العالم كله
عشر المصابين بانفصال شبكي بإحدي العينين عرضة للإصابة في العين الأخري
الانفصال الشبكي القطعي أخطر أنواع الانفصال وكل دقيقة تأخير في تثبيته يهدد بفقدان الرؤية
سعد صبحي إبراهيم
صديق قديم.. عمر صداقته معنا 11 سنة.. التقينا معه لأول مرة في 9 مارس 2006 عندما جاء إلينا من أقصي بلاد الصعيد.. من قرية المعصرة مركز الفتح بمحافظة أسيوط.. كان وقتها في مقتبل عمره – 44 عاما – جاء يومها مهموما قلقا يبحث عن طاقة أمل تحفظ له نور عينيه.. في بداية لقائنا قدم لي في حياء وخجل رسالة من القس مينا حنا, راعي كنيسة الملاك ميخائيل, ببلدته.. كلماتها هزتني.. أحسست بصدق تعبيراتها.. هو رجل ككل رجال الصعيد البسطاء يعيشون في غني روحي.. وككل رجال الصعيد المهمومين يعيشون في سعادة إلهية.
التقطت هذا من كلمات الأب الكاهن, ومن حيائه وخجله وهدوئه وابتسامته المختفية وراء قلقه الذي تفصح عنه عيونه الضيقة.. اقتربت منه في تعاطف لأخرج به من دائرة الخجل.. التقطت من اسمه سعد المدخل إلي قلبه.. قلت له: اطمئن لن تعود إلي بلدتك إلا سعيدا.. أنت رجل مسعد من قبل أن تولد فأطلقوا عليك سعد.. ومن هذا المدخل بدأت صداقتنا.. وبدأ يفضفض في بكل تفاصيل حياته.. عن سر سعادته الممزوجة بالهموم.. وسر قلقه الممزوج بالفرح.. وخرجت في ذاك اليوم البعيد – مارس 2006 – في أول رحلة معه إلي المستشفي الوطني للعيون.. والأسبوع الماضي – مايو 2017 – اصطحبته في رابع رحلة معه إلي المستشفي الوطني للعيون.
اغفروا لي إن كنت لن أعود اليوم لأحدثكم عن 11 سنة مع عيون الصديق سعد حاولنا خلالها أن نحافظ بداية علي رؤيته بالعين اليمني التي بدأت منها مأساته ونجحنا في هذا لسنوات إلي أن استنفذ الطب كل إمكاناته ولم يعد باق له إلا عينه اليسري.. وحتي هذه بدأت تتسلل لها المياه البيضاء في أغسطس من العام الماضي – 2016 – وكانت موضوع رحلتنا الثالثة عندما أزال طبيب العيون النابغة د. فتحي فوزي المياه التي بدأت تحجب الرؤية عن عينه الوحيدة وزرع بها عدسة جديدة أعادت له الرؤية بوضوح.. إلي أن كانت قمة المأساة الشهر الماضي عندما تعرضت إلي انفصال شبكي وكانت رحلتنا الرابعة معه لإنقاذ نور عينه الوحيدة.. عن هذه الرحلة.. وعن هذا الرجل البسيط, التقي, الهادئ, المؤمن, المملوء بالسلام أحدثكم اليوم:
* وعدتكم أن يكون حديثي اليوم قاصرا علي رحلتنا الرابعة مع الصديق سعد.. لكن اسمحوا لي أن أعود قليلا إلي الوراء حتي لا تبدو الكلمات مبتورة.. فبعد رحلتنا الثالثة معه والتي تكللت بنجاح عملية إزالة المياه البيضاء وتركيب عدسة جديدة بعينه اليسري والوحيدة التي يبصر بها كنا في تواصل مستمر معه فصداقتنا مع أحبائنا المرضي والمتألمين لا تنتهي عند رحلة الشفاء.. هم معنا ونحن معهم في تواصل مستمر.. وأصارحكم أنني كنت قلقا دائما علي صديقنا سعد وكان هذا سبب تواصلي المستمر معه.. وكان دائما يطمئني ويتحدث إلي بفرح حسب سلام قلبه.
أذكر محادثته يوم عيد القيامة.. حدثني كعادته بفرح.. لم يتوقف لسانه علي ترديد كلمة نشكر ربنا.. كان أسئلتي إجابتها عنده واحدة نشكر ربنا.. وفيما كان صوته مسبحا بشكر الرب مازال يرن في أذني اتصل بي بعدها بيومين.. كانت رنات صوته هذه المرة حزينة.. اشتكي لن أن رؤيته بعينه الوحيدة التي يبصر بها بدأن تتأرجح.. وأصارحكم أني في البداية لم أنزعج فصدي كلمات الشكر بفرح كان مازال يرن في أذني ويغلب علي صوته الحزين.. شجعته في ثقة أن الأمر بسيط ودعوته للحضور ليناظره الدكتور فتحي فوزي بعد أن مضي علي العملية أكثر من 6 شهور.. في الصباح وجدته أمامي فأدركت حجم قلقه من سرعة مجيئه.. ضايقني أن أراه هكذا مكتئبا, حزينا, مهموما.
بدأت أطمئنه وإن كنت لا أخفي عنكم أن القلق بدأ يتسلل لي أنا أيضا أعطيته خطابا إلي الدكتور فتحي فوزي ليناظر عينه الوحيدة.. ساعات وجاءني اتصال تليفوني من المستشفي الوطني يخبرونني أن الدكتور فتحي فوزي رأي أن انفصالا شبكيا قد حدث بالعين, وأحاله علي الفور إلي الدكتور ماجد ميخائيل, استشاري الشبكية بالمستشفي, الذي رأي ضرورة سرعة التدخل الجراحي, ويطلبون موافقني علي إجراء الجراحة التي ستتكلف نحو 15 ألف جنيه.
لم أتردد لحظة في الموافقة فالأمر لا يتحمل الانتظار.. بعد لحظات كان سعد قد دخل حجرة العمليات.. المفاجأة صدمتني لكن الصدمة لم تفقدني الأمل فمازالت رنات الشكر ترن في أذني.. كنت واثقا أن الرب معه كما كان مع أيوب.. ومع كل أصدقائنا المرضي والمتألمين.. في كل رحلاتنا نري دائما يد الرب الحانية تمتد تخفف آلام المتألمين.. تركت كل شيء وأسرعت إلي المستشفي لأري عمل الرب مع صديقنا سعد وأسجله لكم.
***
* عندما وصلت كان صديقنا سعد في حجرة الإفاقة.. اطمئنيت عليه وكان برفقته زوجته التي رأيت فيها كل ما في زوجها.. الطيبة, الهدوء, الحياء, الخجل, والإيمان العميق.. وكان الطبيب الجراح الذي أنقذ عينه من العمي قد غادر المستشفي إذ كان علي موعد سفر إلي إنجلترا مشاركا في مؤتمر طبي بمدينة ليفربول وأوصي قبل سفره بالراحة التامة لمدة ثلاثة أيام مع بعض التعليمات والعلاجات علي أن يناظره بعدها فور عودته من المؤتمر الذي سيسغرق أيضا ثلاثة أيام.. وهنا أحسست أن الرب يدبر كل الأشياء كحسب مواعيده.
* بعد ثلاثة أيام – أول مايو 2017 – ذهبت مع صديقنا سعد وكان أول لقاء لي مع الدكتور النابغة ماجد ميخائيل.. وأصارحكم أنني رأيت فيه الطبيب. الإنسان في زمن جفت فيه مثل هذه المشاعر.. رأيته يتعامل مع صديقنا سعد بمحبة عميقة.. ورأيت علي وجهه ابتسامة عريضة تنبع من فرحة قلبه عندما نزع الغطاء من علي عين صديقنا واطمئن علي سلامتها ونجاح العملية واختبر رؤيته بها.. سمعت صوته يردد نشكر ربنا.. لم يكن هذه المرة صوت سعد الذي أعددته.. كان صوت الدكتور ماجد.. ووجدت نفسي أردد نشكر ربنا.
***
* جلست إلي الدكتور ماجد ميخائيل ليحدثني عن شبكية صديقنا سعد.. الحديث غلبته التعبيرات العلمية, ولكن الدكتور ماجد تغلب عليها بالشرح التفصيلي أحيانا, وبالإشارة إلي أمثال من الواقع الحياتي أحيانا أخري.. وكنت أري من بين الكلمات عمل الله مع صديقنا سعد.. كنت أري يد الله.. وهي تمتد لتنقذه من فقدان البصر بالعين الوحيدة التي يبصر بها.. باختصار شديد قال لي الدكتور ماجد.
** الشبكية هي المسئولة عن استقبال الضوء الساقط علي العين, ومن هنا فهي تلعب دورا مهما في عملية الإبصار بفضل ما تحتويه من ملايين الخلايا البصرية, ومن هنا فإن أي خلل انفصال في الشبكية دون الإسراع في إعادتها سيؤدي بالضرورة إلي خطر فقدان البصر.
* كلمات الدكتور ماجد ذكرتني بما فاجأني به سعد في حديثه التليفوني من أن رؤيته بالعين اليسري والوحيدة بعد أن كانت مستقرة من إزالة المياه البيضاء وتركيب عدسة جديدة في أغسطس الماضي, بدت الآن مشوشة تعترضها خطوط سوداء تطفو ضمن مجال الرؤية.. وأدركت مع حديث الدكتور ماجد أن هذا كان بداية الانفصال.
وشكرت الرب علي أني دعوته للحضور.. ورأيت عمل الرب عندما جاء بعد ساعات قليلة من المحادثة, ووجدته أمامي في صباح اليوم التالي ليكتشف الدكتور فتحي فوزي وجود انفصال شبكي, ويسارع الدكتور ماجد ميخائيل بالتدخل الجراحي.. وعن هذا التدخل السريع الذي أنقذ سعد من فقدان البصر قال لي الدكتور ماجد:
** هناك ثلاثة أنواع للانفصال الشبكي, أولهما الانفصال العظمي, والثاني الانفصال القطعي الذي يحدث لمرضي السكر, وثالثهما الانفصال التلفي.. وأخطره هو النوع الأول وهو ما حدث مع هذه الحالة.. وكما هو واضح من اسمه – القطعي – أنه يعني حدوث قطع في الشبكية نتيجة انكماش في الجسم الزجاجي, وهذا القطع يتطلب التدخل الجراحي السريع لإعادة الشبكية إلي وضعها, وأي تأخير في هذا يهدد المصاب بفقدان الرؤية, ولهذا نعتبر حالات الانفصال القطعي حالات طوارئ لا تحتمل الانتظار أكثر من 24 ساعة من وقت حدوث الانفصال.. وقد استطعنا إنقاذ هذا المريض من فقدان الرؤية في اللحظات الأخيرة, وأي تأخير لدقائق معدودة كان سيؤدي به إلي العمي.. ونحن نشبه هذا بالشجرة التي تسقط, فكلما أسرعنا في إعادتها ستحتفظ بأوراقها, وأي تأخير في إعادتها سيفقدها جزءا من أوراقها, ولو طال سيفقدها كل أوراقها.. ولهذا تعتبر من حالات الطوارئ.. وكان من حسن حظ المريض أني دخلت به حجرة العمليات علي الفور رغم ارتباطي بموعد سفر بالطائرة.
* مع أنني كنت أري عمل الله مع صديقنا سعد في كل ما حدثني به الدكتور ماجد إلا أن سؤالا ظل يطاردني: هل هناك علاقة ما بين عملية إزالة المياه البيضاء في أغسطس من العام الماضي وحدوث الانفصال في شبكية ذات العين في أبريل من العام الحالي؟!.. سؤال لم أتركه يحيرني وطرحته علي الدكتور ماجد.. فأجاب:
** أحيانا ما تكون هناك علاقة ما بين عمليات إزالة المياه البيضاء وحدوث انفصال شبكي.. والفكرة في هذا أنه في عمليات إزالة المياه البيضاء تصحبها نزع العدسة الطبيعية وتركيب عدسة صناعية جديدة تعطي للمريض درجة إبصار أفضل.. ولأن العدسة الطبيعية التي خلقها الله في الإنسان تكون من السمك الذي يعطي الجسم الزجاجي قدرة أكثر علي الثبات, فإن العدسة الصناعية الجديدة تكون عادة أقل في السمك, ومن ثم تصبح هناك مساحة لحركة الجسم الزجاجي قد يؤدي إلي شد أطراف الشبكية فيحدث الانفصال.. والإحصائيات في العالم تقول: إن هذه النسبة لا تتعدي 2% من الحالات التي تجري لها عمليات إزالة المياه البيضاء بالطرق الحديثة التي نعمل بها الآن, وحتي هذه النسبة التي يحدث لها انفصال شبكي لا يقصد به بعد شهر أو شهرين أو حتي بعد ثمانية ولكن علي مدي العمر, ولهذا فالطب لا يعتبر عمليات المياه البيضاء سببا مباشرا للانفصال.. وأري أنه لا علاقة في هذه الحالة ما بين إزالة المياه البيضاء وحدوث الانفصال, فهذا كان سيحدث سيحدث كما حدث في العين اليمني, ومن المعروف علميا أن إصابة إحدي العينين بانفصال شبكي يعني أن هناك عرضة بنسبة 1 من 10 لانفصال شبكية العين الأخري.
***
* عاد سعد إلي بلدته تصحبه زوجته الوفية.. وتصحبه دعواتنا ليحفظ له الرب البقية الباقية من الرؤية بعين واحدة.. وأدعوكم جميعا يا كل الأصدقاء لتصلوا معي من أهله.. صعب هذا الرجل في الخمسينيات وقضي خمس سنوات عمره في علاجات مع عينيه.. لكن ما يفرحنا أننا نري الله معه في كل خطوة, ونلمس يد الرب وهي تسنده.. ولا يبقي لنا إلا وعد الرب تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم.
————-
Discussion about this post