لا تنتظروا المعونة من أصحاب المنطق.. ولا تطلبوا السند ممن يمسكون بالورقة والقلم للحساب والسؤال قبل أن يضعوا أياديهم فوق أكتافكم يربتون عليها ويسندون أعمدتكم الفقرية قبل السقوط أرضا.. لا تطلبوا قبلة الحياة من الموتي الذين رقدوا فوق كنوزهم الأرضية.. واختاروا إغلاق الأبواب المفتوحة من قبل الله.. اطلبوا ممن يتنافسون علي صناعة الخير وإنعاش اقتصاد المحبة.. إنهم يعملون في إنتاج الرحمة يوميا.. أولئك هم من يستحقون أن تسكبوا أمامهم دموعكم وتعبرون جسور الألم معهم.. فلن يعيروكم يوما.. ولن يخذلوكم لحظة.. لأن تجارتهم رابحة.. واقتصادهم ناهض.. أولئك الذين يسمعون فيستجيبون ولا يخضعون ما يملكون لحسابات الصدق والكذب والتفتيش عن المعدمين.. بل يسترون مع الله المستورين بلا تشكيك ولا تجريح.
كانت لنا أسرة مستورة.. كانت لنا أعمال في الخير.. طالما قمنا بها بلا تردد.. وحينما دارت الأيام بنا وجار الزمن علينا لم نجد أحدا إلي جوارنا.. الكل تخلي وولي كما لو كنا مدعين.. هكذا بدأت السيدة ابنة الثلاثينيات من عمرها حديثها معي.. جاءت في تردد تروي ما حدث لأسرتها المترابطة.. إنها أسرة تجمع الوالد والوالدة وابنين وابنة جميعهم متزوجون ولديهم أبناء.. انشظاوا ورشة خياطة صارت مصنعا صغيرا يسترهم ويستر من يساعدونهم.. الربح يكفي الجميع والورشة في الدور الأرضي لمنزلهم الذي شيدوه بالعرق والجهد والفرح ليجمعهم.. لكن بقاء الحال من المحال.. ذات يوم اصطحب الوالد ابنه الأكبر في رحلة قصيرة إلي الغردقة.. الإصلاحات علي الطريق لا تترك فراغا للمرور الآمن.. السيارات كما البهلونات في سيرك.. تمر بأعجوبة.. لكن لسوء الحظ لم تمر سيارتهم.. خرجت فجأة مقطورة من جانب الطريق لم يتمكن الابن الذي كان يتولي قيادة السيارة أن يتفاداها.. حاول السيطرة علي سيارته بصعوبة شديدة ألقي جسمها إلي الجانب الآخر من الطريق.. مرت المقطورة وقبل أن يرفع قلبه شاكرا النجاة فوجئ بأنه ينحرف تجاه سور من الحديد تم وضعه ضمن الإصلاحات.. لم يكن الاصطدام بسيطا.
أفاق الشاب ابن الثلاثين من عمره ليجد جسده ملقي علي فراش في مستشفي.. لا يشعر سوي بالألم.. والده غائب عن عينيه لا يعلم أين هو.. يتحسس موضع الألم إنه ليس بموضع وحيد بل مواضع عدة في جسده.. يرفع رأسه متأوها يا إلهي ما هذا ماذا حدث.. ترتب شقيقته الكبري علي كتفه وتطلب منه أن يشكر الله علي النجاة.. يمد ذراعيه متحسسا ساقيه فلا يجدهما.. صراخ وعويل.. إغماءة طويلة.. يفيق منها ليعلم أن السور الحديد قطع السيارة من الباب الجانبي ومر بساقيه وساقي والده.. الابن أصابه بتر في الساق اليمني أسفل الركبة والساق اليسري أعلي الركبة.. ظل ينزف ثلاث ساعات ملقي علي الطريق.. وما أن وصل إلي المستشفي حتي تم نقل 25 كيس دم علي مرحلتين 8 أكياس في مستشفي السويس والبقية في القاهرة.
إلي هنا صمتت شقيقته التي كانت تروي وكلها إيمان أن الله الذي أنقذ حياتهما لن يتركهما.. وبدأت تروي المعاناة التي دخلت فيها العائلة بسبب تكاليف الجراحات وتقول: بعد الجراحة ومرور الصدمة أصيب أخي بتليفات مزمنة في مكان البتر.. ولأن وزنه ثقيل تأثرت التئمات الجروح وبدأ وزنه في الزيادة بسبب عدم الحركة, فأضاف عبئا جديدا علي العبء الأصلي.. دخل شقيقي المسكين في جراحة جديدة لاستئصال الجزء المتليف ونزعه.. لكن مع مرور الوقت استمر وزنه في الزيادة حتي أصبح 150كجم.. فعاد التليف إلي ساقيه.. فاضطر الطبيب إلي اتخاذ قرار بإجراء جراحة تحويل مسار للمعدة للسيطرة علي الوزن.. ومن جراحة لجراحة ساءت حالته النفسية.. لم يكن أمامنا إلا أن نساعده علي عدم التعرض للتليفات مرة أخري فلا يوجد ما يمكننا نزعه أو استئصاله من ساقيه.. أبناؤه معذبون.. زوجته باكية شاحبة.. شبابه ضاع أمامهم ولا يملكون إلا أن يشكروا الله أنه مازال في وسطهم.
أما والدي.. فأجريت له عدة جراحات لإنقاذ ساقه من البتر مثل أخي.. وينتظر جراحة جديدة في أول أكتوبر لترقيع العظام حتي يتمكن من الوقوف علي قدميه مرة أخري.. أنفقنا ربع مليون جنيه في الجراحات.. لم نبخل بأي شيء.. بعنا كل ما نملكه من مشغولات ذهبية.. رصيدنا في البنك صار صفرا.. المصنع توقف.. العمال لا يريدون الرحيل لكن ما باليد حيلة.. من أين لنا بدفع الأجور ونحن علي مشارف إشهار الإفلاس.. تولي أخي وأمي المصنع بدلا من العمال.. حتي نتمكن من استمرار الإنفاق علي الأسر الربع فمصروفات المنزل والمدارس والعلاج لن تنتظر.. تركت أمي المريضة فراشها وراحت تنكب علي الماكينة لإنهاء الطلبيات المتعاقد عليها.. أمي التي تعاني من فشل في الجهاز التنفسي منذ سنوات.. لدرجة أنها لا تستطيع الذهاب إلي الحمام بمفردها.. قررت أن تغلب مرضها لتنقذ العائلة من الجوع والفلس.. فالسوق لا يعرف الظروف.. يساعدها أخي الأكبر.
منذ شهر أبريل ونحن نصارع مع الزمن والجراحات والمستشفيات وفواتير الاستحقاقات.. حتي نفذ آخر جنيه معنا.. طرقت كل الأبواب المحيطة بنا.. العملاء.. الأقارب والمعارف المقربين.. لن ينصفني أحد.. جميعهم يرون أننا نمتلك منزلا وورشة علينا بيعهم حتي نقوم بالتزاماتنا.. لكن لم يسأل أحدهم نفسه هذا المنزل الذي نمتلكه إذا بعناه أين نحيا وهل يقبلون أن نشرد أبناءنا في الشوارع وننشئ مشكلة جديدة لا يمكن حلها.. فنحن أربع أسر لسنا أسرة واحدة.. ذهبت إلي الكنيسة ولم أجد من الكهنة أي مساعدة.. إنهم يتوهمون أننا مليونيرات.. ولا أعرف من أين جاءت لهم تلك الفكرة اللعينة.. هل لأننا كنا نساهم في نفقات أخوة الرب حينما كنا قادرين؟.. لا أعلم ماذا أفعل.. شقيقي الأصغر يحتاج حاليا إلي تركيب جهاز تعويضي في ساقيه والجهاز سيتكلف حوالي أربعين ألف جنيه.. طبقا لتقدير مستشفي العجوزة التابعة للقوات المسلحة.. لا يوجد معنا منها ولا عشر جنيهات.. لكنني أثق أن الله سوف يفعل ما لم يفعله البشر.. أثق أنه أنقذ أبي وأخي لحكمة نحن ننتظر أن يكشف عنها.. من المؤكد أنه لم ينقذهم من الموت ليعذبهم بالحياة.. لا يمكن أن يكون عدل الله قاسيا هكذا.
بدأت السيدة تذرف دموعها ويتخلي عنها ثباتها.. لتقول الآن شعرت باحتياج المحتاجين الذين كنت أساعدهم.. كنت أري في عيونهم الحزن وانكسار النفس والعوز القاسي.. لكنني لم أكن أشعر بنفس مشاعرهم ولم أحيا ذات معاناتهم.. الآن فقط عشت ما كنت أتساءل كيف يحيون حاملين تلك المشاعر المريرة.
واستمرت السيدة في الحديث باكية: لم يقف الأمر عند هذا الحد ولم تتوقف المشكلة عند الأربعين ألف جنيه.. فمنذ شهرين صممت حماة شقيقي الأكبر أن تصطحب ابنته إلي رحلة إلي العين السخنة.. صممت أن تخرج البنت من جو الحزن والمرض خاصة أن والدها ووالدتها صارا مشغولين بالمصنع بدلا من العمال.. وافق أخي وذهبت كارين الصغيرة ابنة العشر سنوات مع جدتها لوالدتها.. واستقلوا الأتوبيس.. كانت كارين طوال الطريق تصلي إلي الله.. وتقول له يارب احرسنا علشان مايحصلش لينا زي اللي حصل لجدو وخالو.. ظلت تصلي إلي أن غفت أعينها ونامت.. وفجأة استيقظت كارين لتجد نفسها في المستشفي.. يا الله لماذا خذلت كارين لا أعلم لكن كل ما أعلمه أن الحادث وقع وهي في غفوتها إذ انقلب الأتوبيس في الطريق.. ظلت كارين تنزف كتلا من الدماء فاقدة الوعي حتي وصلت إلي المستشفي.. وهناك جاءت التقارير الطبية المؤلمة.. أصيب الطفلة بكسر في الضلع الأيسر وكسر في الساق اليسري وكسر في الحوض وتهشم في الفكين الأعلي والأسفل وكسر في الجمجمة وبروز في العين اليمني.
كارين تحتاج لعدد كبير من الجراحات ولا يوجد المال اقترضنا علي سبيل السلف والرد من أحد التجار لإجراء الضروري.. وقمنا برفع دعوي علي شركة السياحة تم الحكم فيها سريعا ولكن بخمسة آلاف جنيه لا أعلم ماذا تعني خمسة آلاف جنيه لجراحات وعلاج وخلافه.. كارين في المستشفي ووالديها في حالة سيئة للغاية.. أما والدي الرب الأكبر لعائلتنا صار يتناول أربعة أدوية مضادة للاكتئاب.. يشعر بالعجز والسخط علي الحياة كلها.. وأنا مسئولة المشاوير والغيارات الجراحية لأن تكلفة التمريض عالية جدا.. تدربت علي كيفية عمل غيار للجروح والبتر وأقوم يوميا بالغيارات بمفردي.. لكن ماذا ينفع توفير تكلفة الغيار ونحن أمام سيناريو متكرر من الأزمات جميعها أزمات حوادث طرق.. ماذا ينفع الطواف علي الكنائس إن كان الآباء لا ينظرون إلا للمظهر ولا يمكن أن نتشرد جميعا لنبيع مسكننا ونلقي في الشارع حتي نمد أيادينا للجميع ولن يرحنا أحد.. هل من الضروري أن أرتدي ملابس ممزقة متسخة ليصدق الناس أننا في حاجة شديدة للمساعدة.
سارت السيدة الموجوعة تصرخ وتبكي: يا إلهي من عندك الستر مثلما سترتنا من قبل وليس من عند الآباء ولا الكهنة ولا من يملكون المال ويضنون به.. يا إلهي من عندك الحل مثلما أنقذتم من الموت أنقذهم من المذلة.. يا إلهي من عندك تنفتح بوابة الكنوز ولا يغلقها أحد وليس من عند غيرك السند.
أحنت رأسها وبين كفيها دفنت وجهها المضيء بنور الحق.. ليلتهب بالدموع الممتزجة بالآهات كنار الشمس في قلب النهار.. العجز سيد الموقف.. لكن ما من عجز صمد أمام من يحولون آلام البشر إلي فرح.. هكذا اعتدنا من نواب الخير علي الأرض.. فإذا كانت كارين وخالها يحتاجون لأموال تتعدي السبعين ألف جنيه.. الله قادر أن يرسل ما يزيد أيضا.. من جعل كارين تتمني النجاة وتشعر بفرطتها الطفولية أن حادثا ما سيصيبها.. قادر أن يرسل إليها من يساعدها لتتغلب علي الكسور والجروح لتقوم مرة أخري واثقة في الله الذي ظلت تناديه قبل ذهابها في الغيبوبة.. طفولتها البريئة تنتظر من يحيي ثقتها في الله مرة أخري.
تأملت ما جري لهذه العائلة وكيف تحولت فرحتهم ورباطاتهم وعائلتهم المثالية.. إلي كتلة من الأحزان والآلام غير القابلة للتجزئة.. ففي كل ركن ألم.. وفي كل أسرة مصاب.. وفي كل زاوية عجز وضعف ودموع.. تأملت كيف صارت الأحوال بعد الستر والغني إلي سؤال الناس ومد الأيادي من أجل الشفاء.. كيف سمح الله لا أعلم.. لكن لحكمة ما أراد أن تمر هذه العائلة باختبار قاس قد نعلم فيما بعد.. أما الآن لا مفر من جمع المبلغ من أجل المصابين ومن أجل الطفلة التي راحت تناديه ولم تجد إلا كسورا ونزيفا وحياة كانت أقرب للموت قبل أيام.. من أجل كل المعاني الإنسانية.. من أجل ألا تدور الدوائر علي المستورين فلا يجدون إلا الأرض يعضون عليها ويتحسرون علي ما كانوا يفعلون من خير للمحتاجين.. من أجل كل ما فات لابد أن نتكافل ونجمع المبلغ لهذه العائلة.. من أجل التجارة الرابحة واقتصاد المحبة وقبلة الحياة من السابحين في بحور الخير ضد تيار الأنانية.