الإلحاح قرين الاحتياج.. لا تملوا ممن يلحون عليكم في مطالبهم.. لا تملوا ممن يبالغون أحيانا.. لا تنعتوهم بالكدب وانعدام الكرامة وغياب عزة النفس.. فحينما يغيب المال ويحل العوز ويعجز الآباء أمام أبنائهم عن الوفاء بالحاجات الأساسية تغيب كل الأشياء التي قد تبدو موضوعية وطبيعية.. حينما يعجز الناس عن العلاج ويتمنون الموت للخلاص من آلام المرض أو تبعاته لأنهم لا يملكون تكلفة العلاج.. حينها قد يتملكهم الإلحاح أملا في الشفاء.. واحد من أولئك الذين أودع المرض سره في أسرته الصغيرة.. ظل يتصل يوميا بباب افتح قلبك علي مدار شهر.. وفي كل مرة أجيبه ذات الإجابة.. لا يمكننا مساعدتك إلا بعد إجراء بحث الحالة مع الالتزام بالدور إذ لا يمكننا تخطي محتاج من أجل آخر فالميزانية لا تسمح بذلك إلا في ظل وفرة مالية غابت في الشهور الأخيرة.. وللأسف دوره في البحث لم يكن قد حل وذات يوم حدثني ليبلغني أنه قادم إلي القاهرة إذ يعيش في إحدي محافظات الوجه البحري.. استقبلته ليروي قصته المؤلمة, ويقول:
أنا رجل في الخامسة والخمسين من عمري متزوج أعمل كاتبا في إحدي المصالح الحكومية وأتقاضي راتبا قدره 1600 جنيه.. لدي ابن عمره 15 عاما وابنة عمرها عشرة أعوام.. للأسف تعرضت ابنتي لواقعة قاسية في المدرسة.. مثلها مثل أي طفلة في عمرها قد تخطئ أو تتحدث في الفصل الدراسي أو أي شئ مما يفعل الأطفال الصغار.. لكن المدرسة المسئولة عن الفصل قررت أن تقوم علي تربيتها بنفسها.. وبطريقتها الفجة العنيفة.. ضربت ابنتي ضربا مبرحا مفاجئا.
في التو والحال أصاب البنت نزيف من الأنف.. وتبول لا إرادي.. لم تقف الإصابة عند حدود الواقعة والمفاجأة أو قساوة الموقف علي البنت.. لكن عادت للبيت في حالة ذهول.. وظلت هكذا فترة طويلة..
اصطحبناها إلي طبيب نفسي أبلغنا أنها تعاني من صدمة وبدأنا رحلة العلاج النفسي المستمرة حتي الآن.. وللأسف مع سماع أي صوت مرتفع تصاب ابنتي في الحال بنزيف من الأنف.. أما التبول اللإرادي فحاضر طوال الوقت ولم يفلح العلاج النفسي في تضميد ما جرحته قسوة المدرسة.
زاد الحمل بعد مرض ابنتي فالعلاج النفسي متعب ومكلف وابني في مرحلة التعليم الثانوي ويحتاج إلي نفقات يومية لا يكفيها راتبي هذا بخلاف مصروفات المأكل والإيجار والحياة بوجه عام.. كل هذا كنت احتمله معتمدا علي صحتي.. لكن للأسف سارت الظروف إلي الأسوأ.. بعد أن أصبت بجلطة في القلب تطلبت تركيب دعامتين بالشرايين وتسليكا.. تحمل التأمين الصحي تكلفتها ولم تلبث حالتي أن استقرت حتي أصبت بجلطة في الشريان التاجي..
أخبرني الطبيب أن الانتظار كل يوم يحمل خطورة شديدة علي حياتي.. ولكن ماذا أفعل وأنا لا أملك تكلفة الأشعات والفحوص التي تسبق الجراحة التي سيتحملها التأمين الصحي.. ماذا أفعل وأسرتي لا تملك موردا للإنفاق إلا راتبي.. ماذا أفعل وأنا بصحتي عاجز وغير قادر علي علاج ابنتي وتعليم ابني وإسعاد زوجتي..
فما بالكم وأنا بلا صحة موجوع القلب معطوب الشرايين. ماذا أفعل وقد ذهبت إلي الكنيسة فأبلغوني أنهم يعطوني شهرية مائة جنيه وهذه هي استطاعتهم وعلي أن أفتح سبيلا جديدا لمتابعة حالتي التي قد تتطلب مزيدا من المساعدة..
ماذا أفعل ولمن أذهب وأنا المسئول عن الآخرين أما أنا فلست مسئولا من أحد ولا يمكن أن أظل هكذا متسولا من أجل 2000 جنيه قد تنقذ حياتي.. ماذا لو لم يكن لدي فرصة التأمين الصحي الذي تحمل نفقة الجراحة وهي تتخطي 40ألف جنيه؟ حينها كان علي أن أمكث في منزلي منتظرا الموت؟.. وهل يختلف الحال الآن كثيرا أن أنتظر الموت وتشريد أسرتي من أجل 40 ألف جنيه أو من أجل 2000 جنيه.
ذات النتيجة لم تتغير فحتي الآن لم أجد من يدفع لي مبلغ الفحوصات.. الذي قد لا يصل لتكلفة غدوة أو عشوة عن بعض القادرين أو عزومة عند بعض الميسورين.. أو نسبة ضئيلة من حفل زفاف لابن أحدهم.. أنا لا ألوم القادرين علي رفاهية حياتهم ولا أحسدهم, فقط لم أجد طريقا للتعبير عما بداخلي إلا تذكرتهم بنفقاتهم الشخصية التي قد ينقذ حياتي جزء بسيط منها.. صدقوني لا أطمع في أي شئ إلا بقائي كي أستر أسرتي الصغيرة الفقيرة فزوجتي لا تعمل وابنتي مريضة وابني مازال المشوار أمامه طويلا.
أنهي الرجل حديثه ثم هم ليرحل والدموع لم تفارق عينيه.. وعلي بعد خطوات من المكتب كانت زوجته في انتظاره. باكية حزينة مكسورة.. تحت نار الشمس لا دفئها يحيون.. في قدور الحاجة تغلي حياتهم.. وبين شقي رحي الكرامة والمرض يتململون.. ولا يئنون ولا يتمردون ولا يصرخون إلا بعدما صاروا مطحونين.