تحتفل جمعية الصعيد يوم الجمعة 24 إبريل 2015، بعيد تأسيسها ال75
في ليلة مظلمة بكى طفل صغير داخل بيت من الطين فى ريف الصعيد، كان والده الفلاح وزوجته عاجزين عن مساعدة طفلهم المصاب بإلتهاب رئوي ، فوصف لهم طبيب القرية الدواء وحذرهم أن حياة الطفل مهددة إن لم يأخذ العلاج ، لكن الدواء كان غالي الثمن ولم يكن لديهم فائض لشراء هذا الدواء لفقرهم ، فشراء هذا الدواء كان سيحرم باقي العائلة من الطعام ، ثم أتخذ الأهل القرار الصعب وتركوا الطفل ليواجه مصيره.. هذه القصة واقعية وليست خيال.. إنها الحقيقة المرة التي حدثت في بيوت كثيرة بالصعيد وأظهرت لنا مدى فقر الفلاحين في أوائل القرن العشرين.
كانت هناك فجوة كبيرة بين التقدم الإقتصادي والتعليمي في المدن الكبيرة وبين الفقر والجهل في الريف. في ذلك الوقت الحكومات لم تفعل الكثير لتنقذ الفلاح من معاناته . وكثير من الأثرياء تجاهلوا تماماً الفقراء ، إلا شخص واحد كان مهموم بهؤلاء وهذا العوز والألم .. فقرر أن يترك عالم الأغنياء ويساعد المحتاجين.
قصة بؤس الجهل
هنري حبيب عيروط (1907 – 1969) كان إبن مهندس مصري من أصل شامي ومن وسط الأغنياء فى هذا الوقت ، نشأ عيروط بالقاهرة وتعلم بمدرسة العائلة المقدسة (الجيزويت) ، وكان متوقع أن يمارس حياته العملية كوالده ولكنه خطط لغير ذلك.
ففي شبابه سافر كثيراً للريف ولاحظ الفلاحين وتأثر جداً بفقرهم وهمومهم ، وكان دائماً يشعر أن الله يدعوه لخدمة هؤلاء.. فقرر أن ينضم للرهبنة اليسوعية (الجيزويت) وكرس حياته لخدمة الفقراء ، ثم سافر عيروط إلى فرنسا لدراسة اللاهوت والفلسفة وعلم الإجتماع وحصل على دكتوراه من جامعة ليون بفرنسا عام 1938 .
كانت رسالته العلمية عن الفلاح المصري وتم نشرها بعد ذلك بعنوان “أعراف وعادات الفلاحين” وتم ترجمتها من الفرنسية إلى الإنجليزية والعربية. تلك الرسالة ناقشت تفصيلياً صراعات وكفاح الفلاح المصري الذي كان يعتبره الأب عيروط هو حجر الزاوية للمجتمع المصري.
لم يكن تركيز الأب عيروط الأساسي الأرض الزراعية أو الإقتصاد الزراعي، لكن كان بالأساس الفلاح كإنسان لأن الإنسان يأتي أولاً..
أرسى الأب عيروط مفهوم – لم يكن مألوف في ذلك الوقت- وهو أن إبادة الفقر مسئولية إجتماعية.. وقال: “حدث فصل بين الطبقة العليا والدنيا بالمجتمع، بين المدينة والريف، بيننا وبينهم.. إنه واجب علينا أن نحرر الفلاح.. هذا واجب على الطبقة العليا وعلى المستفيدين من الفلاح” .
“هم ونحن”
عند عودته للقاهرة عام 1939، تولى الأب عيروط مسئولية أكثر من مدرسة ذات الفصل الواحد بقرى الصعيد، ودعا النخبة من المجتمع المصري لمساعدته لتغيير حياة الفقراء ، وبدأ أولاً من خلال التعليم ثم توسع في نطاق خدمات أكثر وأنشطة للتنمية البشرية.
كما أصدر مجلة “هم ونحن” ومن خلالها شجع الشباب والميسرين لمساعدة الفقراء، كان مؤمناً أنه واجب على الأغنياء والمتعلمين للمساعدة – ليس فقط بالمال، ولكن بتقديم جزء من حياتنا وأنفسنا للفقراء.
قال الأب عيروط: ” المشكلة تتمثل في تحمل وتحقيق المهمة التعليمية التي تتطلب المزيد من التفاهم ، والعناية الشخصية والإهتمام والحب أكثر من لجان وخطب ومراسيم رسمية” ، فقد طالب ونادى بالتعامل الشخصي مع هذا المجتمع لأنه بهذه الوسيلة فقط ممكن أن ترفع رجل.
في عام 1940، أسس مدارس التعليم المجاني بالصعيد المعروفة حالياً ب”جمعية الصعيد للتربية والتنمية ” (AUEED) وبدأت الجمعية بجمع تبرعات واعتمدت على متطوعين لإصلاح مدارس الفصل الواحد وإنشاء مدارس جديدة بالقرى الفقيرة. أيضاً دعا عيروط المؤسسات الدينية في مصر لإدارة بعض المدارس والخدمات الريفية ، حيث وصل عدد المدارس إلى 122 في عام 1950 .
لم يكن الهدف الأكبر من الجمعية التعليم فقط ، فتعليم الجيل الصغير كان النواة التي من خلالها ظهرت أنشطة كثيرة لخدمة هذا المجتمع الفقير – مسلم ومسيحي سواء. فتم إنشاء مستوصفات لتوفير الرعاية الصحية ، وفصول غير رسمية للمتسربين من المدارس والأميين، ومحو أمية، وعمل تدريب مهني، وإنشاء مراكز إجتماعية، وبرامج تمكين الإناث، وعمل ورش عمل للتوعية البيئية، دمج المعاقين وأيضاً مراكز لإحياء التراث.
الصعيد للتربية والتنمية
كان الهدف الحقيقي للجمعية تنمية مجتمع كل قرية بالكامل وليس التعليم فقط . في البداية سعت الجمعية لمساعدة الفلاحين وإدراك قيمتهم الفريدة ورفع درجة احترامهم لذاتهم. ومن الأهداف الرئيسية أيضاً كان تحسين وضع المرأة في الصعيد وإكتشاف المواهب المدفونة داخلهم ، تشجيع الإبداع والإبتكار ورفع مستوى الوعي والمساواة بين الجنسين.
ويخضع العاملين بالمدارس والمستوصفات والمراكز الإجتماعية إلى تدريبات مستمرة لتحسين مهاراتهم المهنية وتعريفهم كيفية التعامل بنهج إنساني في التنمية الإجتماعية.
وكل المدارس موصلة بخدمة الانترنت وتقدم تعليم متقدم للطلبة، ومعظم تلك المدارس حصلوا على شهادة ضمان الجودة من وزارة التربية والتعليم. فمدارس “جمعية الصعيد للتربية والتنمية” من أكثر المدارس المرغوبة والتي يقبل إليها أغلب القرويين من الأغنياء والفقراء لتعليم أولادهم فيهم.
معوقات
ولا يخفى على المجتمع المصري أن هناك بعض السياسات واللوائح الحكومية غالباً ما تقيد التفكير الإبداعي الحر. ففي عام 1956 صدر قانون حدد المدارس ألا يقل عدد فصولها عن ست فصول ، وبسبب هذا القانون اضطرت الجمعية دمج بعض المدارس وغلق أخريات ، فتقلص عدد مدارس جمعية الصعيد إلى 35 مدرسة ، وأصدر قرار أخر عام 2002 بتحويل كل المدارس المجانية إلى مدارس خاصة وبالتالي إجبارهم على قبول الرسوم الدراسية ، لكن بما أن 70 % من الطلاب من العائلات المعوزة أصبحت الرسوم الدراسية في تلك المدارس غير إجبارية ، وتعتمد الجمعية في سد هذا العجز بواسطة التبرعات وبتقديم الأنشطة المجانية بالمراكز الإجتماعية.
تعمل المؤسسة في محافظات عديدة وهي القاهرة، الإسكندرية، المنيا، أسيوط، سوهاج، قنا والأقصر. وتدير 35 مدرسة رسمية بهم 12000 طالب، و18 مدرسة مساعدة (مراكز تعليم) و63 فصول محو أمية. وكذلك تدير 3 مستوصفات و21 مركز صحي لخدمة الأطفال والأمهات. أيضاً 10 مراكز للتدريب المهني و14 مكتبة عامة ، 5 وحدات قروض صغيرة. ومراكز لإحياء التراث منها مركز “حجازة” لصناعة الأخشاب ومركز “إخميم” للمنسوجات.
إطلاق عنان المواهب الخفية
وتحتفل جمعية الصعيد للتربية والتنمية هذا العام بمرور 75 عام على تأسيسها التى زاع سيط نجاحها حتى معروفة في أغلب المجتمعات.
وعندما نرصد قصص هذا النجاح الكبير، يكون أحداها هي مشروع الإحياء الثقافي لصناعة المنسوجات بإخميم، في سوهاج التي تبعد حوالي 450 كيلو جنوب القاهرة. هذا المشروع الذى بدأ صغير وسرعان ما عرف دولياً.
وإخميم مدينة تقع شرق النيل ، وكانت معروفة من العصور القديمة أنها مركز رئيسي لصناعة النسيج ، لكن عندما بدأت المصانع في استخدام الانوال الميكانيكية في كل أنحاء مصر، وحركة القطارات ازدهرت في البر الغربي من النيل، أدى ذلك إلى جذب حركة التجارة ناحية سوهاج الغربية وبذلك تم القضاء على العصور الذهبية لإخميم.
في عام 1869 تم تأسيس مدرسة ومركز إجتماعي بإخميم بواسطة الفرانسيسكان لكنهم هجروها عام 1939 وأستمر المركز يعاني حتى أواخر 1950 إلى أن قابل الأب عيروط بعض سيدات من حركة “جرايل” – حركة سيدات أمريكية كانت تهدف لمساعدة المناطق المحرومة.
وفي 1960 جاءت بعض المتطوعات من حركة “جرايل” إلى إخميم، الذى بدأوا تعلم اللغة العربية وتأقلموا مع عادات هذا المجتمع وحصلوا على ثقة القرويين ، وستطاعوا تكوين مجموعة من النساء من مدينة إخميم، وأغلبهن كانت من السيدات غير المتعلمات المقتصرة حياتهن في منازلهن ، كان أمل سيدات حركة “جرايل” أن يرشدوا هؤلاء السيدات لإكتشاف ذواتهن لإدراك إمكاناتهن وتباعاً تتغير حياتهن للأحسن ، وتم تشجيعهن على الإبداع والعفوية، لم يكن هناك قواعد وبدأ هنا إطلاق عنان المواهب الخفية، وبالفعل بدأت المواهب تظهر تباعاً.
في البداية إختار البنات التمثيل، فانشأوا عروض مسرحية منبثقة من قصص من حياتهم اليومية، وأغلبهم كانت عن تجاربهن الطريفة مع حماتهن.
أكتشاف الموهبة
في يوم طلب الفتيات: “عاوزينكم تعلمونا التطريز ” .. أما السيدات المسئولات عن المركز قررن ألا يعلمن الفتيات التطريز العادي البسيط بل أن يخضن التجربة لتعليمهن فنون إخميم الثراثية القديمة ، فقرروا أن يستخدموا النول اليدوي لعمل منسوجات يدوية مثل الباقية المتبقية من الحرفيين المحليين ، لإنتاج نسخ أو عمل بنفس روح التطريز والزخارف القبطية القديمة ، فنجح هذا المشروع بسرعة خيالية لأنه أتاح للفتيات استخدام مواهبهن الفطرية في منتجات مفيدة تعود عليهن برزق. هؤلاء الفتيات غير المتعلمات أصبحن مسئولات وملتزمات في أي نشاط تعهدن أن يلتزمن به ، هؤلاء نجحن في التخطيط وإسناد الأعمال وتحديد الخامات المستخدمة ومصدرها وأشرفن على العاملات بالتطريز أيضاً ، ومع الوقت إكتسبوا الخبرة التنظيمية للعمل وقدرة إتخاذ القرار وكذلك مهارات التواصل مع الأخرين والعمل ضمن فريق وتحمل المسئولية.
كان المركز ينظم رحلات أسبوعية للفتيات لتوسيع مداركهن بطبيعة مختلفة عن اللاتي يعيشن فيها، وللإستمتاع بجمال الطبيعة. ومن خلال تلك الرحلات أعلنت بعض الفتيات عدم رغبتهن للاستمرار في العمل بالموتيفات الثابتة التي كن يعملن بها، ومن هنا ظهرت في أعمالهن رسومات تعكس مناظر طبيعية وتعبيرات من حياتهن اليومية.
بالطبع بدأت الرسومات العفوية بشكل بسيط وساذج جداً لكن بخبرتهن أستطعن أن ينتجن الرسومات أكثر تدقيقاً وتعقيداً. تم تشجيع الفنانات لتحسين فنهم وتركت لهن الحرية لإختيار النسيج والخيط والموضوع كما يتخيلونه ويختارونه. وبالتالي كل فنانة منهن أصبح لها طراز في رسمها. بالرغم من عدم تعلمهم القراءة والكتابة إلا أنهم أظهروا فن مبهر ، ومع الوقت أصبح نظام العمل يسري بحيث أصبحت الفتيات الفنانات هن المسئولات عن متابعة كل المشروع.
أنفتاح وتحول
السيدات والفتيات اللاتي كانت حياتهن تنحسر في بيوتهن، ولم يستطيعن الخروج من المنزل أو الاشتراك في أي نشاط ، تحولن إلى مديرات للمركز الإجتماعي تحت رعاية جمعية الصعيد للتربية والتنمية. والأن يتقابلوا بشكل دوري لمناقشة إداريات ولتقييم أعمالهن الفنية، فكل فنانة منهن تشرح فكرة عملها وتكون مستعدة لتقبل النقد والدفاع عن العمل بموضوعية.
وبتوسع حجم العمل أصبح يوجد حاجة أكثر لمنسوجات وخامات أكثر. في نفس الوقت الذي كان الحرفيين المحليين يتركون أعمالهم للذهاب إلى المصانع الحديثة. قررت الفتيات خوض مغامرة عمل النسيج.. تلك الحرفة التي عمل فيها الرجال.. تلك الخطوة كانت ثورية على إخميم وتلاقت بإندهاش من رجال المدينة حيث أن تلك الحرفة تطلبت مجهود بدني ، لكن الفتيات كن على استعداد لهذا التحدي وكسر كل المعتقدات الثابتة في فكر المجتمع. وسرعان ما انتج كل نول يدوي أشكال عديدة من المفارش للترابيزات ومفارش للسراير بأشكال زخارف تقليدية خاصة بهم.
وكان للسيدات مطلق الحرية للعمل في تحديد مواعيد العمل وكان مسموح لهن العمل من منازلهم ماعداً النساجون حيث أنه كان مطلوب منهن العمل في مجموعات من اثنين في شيفتات مدتها خمس ساعات.
وينظم مركز إخميم الإجتماعي معرض سنوي في القاهرة لبيع منتجات الفتيات. ومن ايرادات هذا المعرض يتم مساعدة الفتيات لتحسين حالتهم المعيشية.
ومن خلال تبني نظام يشجع على الإبداع والإشراف الذاتي، ساعدت المؤسسة المرأة لزيادة دخلها والأهم أنها افرزت جيل لديه اكتفاء ذاتي وإمرأة قادرة أن تمسك زمام الأمور بدون الشعور بالدونية.
حلم أصبح حقيقة
في خلال 75 عام ، أستطاعت جمعية الصعيد للتربية والتنمية أن تنهض بحياة الآلاف من الفلاحين بأكثر القرى فقراً. وكل هذا بفضل رجل تحدى حلم حتى جعله حقيقة.. تمنى مستقبل أحسن لكل فقير لكل إمرأة ورجل آمنوا بهذا الحلم.. لم تعد القصة “هم ونحن” بل أصبحت ” نحن معاً إيد في إيد ننهض بجتمعنا” .
أما الطفل الباكي الذي ترك ليواجه مصيره.. كتب له الله الحياة بفضل ممرضة متطوعة بالمركز الإجتماعي التي أستطاعت أن تداويه بعناية فائقة وصبر متناهي إلى أن تم شفاؤه..