قراءة فى ملف « الأمور المسكوت عنها» (٩٩٥)
العيون شاخصة على مجلس النواب تترقب طرح مشروع قانون بناء وترميم الكنائس للمناقشة تمهيداً لإصداره.. ولعل هذه المرة هى الأولى منذ نحو أحد عشر عاماً التى يمكننا أن نقطع بثقة أن القانون سوف يصدر (!!).. فهناك تاريخ طويل مؤسف من التسويف والمماطلة وغياب الإرادة السياسية وراء الحيلولة دون صدوره منذ عام ٥٠٠٢ حين بادر المصرى الغيور المستشار محمد جويلى رئيس لجنة المقترحات والشكاوى جلس الشعب آنذاك بالتقدم بمقترح إصدار »القانون الموحد لبناء دور
العبادة«، وكان يهدف وقتها إلى سن تشريع موحد يسرى على سائر دور العبادة فى مصر ترسيخاً للمساواة الكاملة بين المصريين فيما يخص دور عبادتهم.. ومن عايش سنوات الجدل والمماطلة فى إصدار القانون يدرك تماماً الهدف الوطنى السامى الذى من أجله دعا المستشار الجويلى إلى »قانون موحد« وليس مجرد »قانون لبناء الكنائس« فقد أدرك بحسه الوطنى والسياسى أن إخضاع جميع دور العبادة لقانون واحد موحد سوف يكون بمثابة صمام أمان يحمى الكنائس من المساومات والتسلط والشروط الخاصة والنوايا الخفية المبيتة التى قد تتربص بها، لأن أياً من تلك الشروط أو المعوقات سوف يسرى ببساطة على المساجد أيضاً إن هى وضعت فى القانون.. لكن مضت السنين ولم يفلح المستشار الجويلى فى أن يرى القانون، ولا من تبعوه فى ذات المسعى وأذكر منهم مجموعة النواب الأربعة بالمجلس:
الأستاذ سيد رستم، الدكتورة ابتسام حبيب، الأستاذ يس عليوة والدكتور مصطفى الهوارى الذين عادوا ليتقدموا بمشروع القانون الموحد لبناء دور العبادة عام ٧٠٠٢ فى أعقاب الأحداث الإرهابية -التى سميت طائفية فى حينها!!- بقرية بمها بالعياط، ثم تلاهم فى ذات العام المجلس القومى لحقوق الإنسان والذى تقدم بمشروع مماثل لبناء
دور العبادة جاء أكثر تفصيلاً وحفل ببنود رسمت المسار التنفيذى للقانون.
جميع هذه المحاولات باءت بالفشل، وبالرغم من مناقشة مسودات القانون الموحد لبناء دور العبادة تحت القبة والثناء عليه وإقراره داخل لجنة المقترحات والشكاوى، إلا أنه لم يطرح على المجلس أبداً لإقراره والتصويت عليه، وتم الزج به داخل ثلاجة تجميد القوانين حيث ترك قابعاً هناك ليستخدم من القيادة السياسية مرات عديدة فى التلويح بإصداره كلما تعرض الأقباط وكنائسهم لضربات إرهابية وانفجر بركان غضبهم -ومعهم رأى عام وإعلام محتج- فكان يتم إخراج مشروع القانون من ثلاجة التجميد والتعهد بإصداره لامتصاص الثورة والغضب وتخدير الأقباط ريثما يهدأوا وينسوا ثم تتم إعادته مرة أخرى إلى الثلاجة!!.. حدث ذلك فى ظل قيادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة وإدارته شئون البلاد فى أعقاب ثورة ٥٢يناير ١١٠٢، ثم تكرر من حكومة الدكتور عصام شرف فى أعقاب كارثة ماسبيرو -أكتوبر ١١٠٢- وكان ذلك مصاحباً لصدور أوامر
المشير طنطاوى بسرعة إصدار القانون مع ضرورة تضمينه نصوصاً لتوفيق أوضاع الكنائس غير المرخصة.. ولكن أبداً لم يحدث شئ ولم يصدر القانون.. واستمر يؤدى دور »مانعة الصواعق« أو »حقنة المخدرات«!!!
حرصت أن أذكر بهذا التاريخ الطويل لأسجل نقطتين أساسيتين: الأولى فكرة »القانون الموحد« الذى ينطبق على سائر دور العبادة وما وراء ذلك من هدف وطنى نبيل، والثانية -وأظن أنها نتيجة مباشرة للأولى!!- إجهاض القانون والاكتفاء بالتلويح به لإخماد بركان الغضب عقب كل مصيبة.. ولعل إدراك العقلاء لذلك الواقع المعوج المقاوم لقانون موحد لسائر دور العبادة هو ما دعا القائمين على صياغة بنود الدستور المصرى الأخير -دستور ٤١٠٢- إلى تنحية »القانون الموحد لبناء دور العبادة« وإحلال »قانون بناء وترميم الكنائس« محله حيث نصت المادة رقم (٥٣٢) من الدستور -باب أحكام انتقالية- على الآتى: »يصدر مجلس النواب فى أول دور انعقاد له بعد العمل بهذا الدستور قانوناً لتنظيم بناء وترميم الكنائس، بما يكفل حرية ممارسة المسيحيين لشعائرهم الدينية«.. وأرجوا أن تنتبهوا إلى عبارة »فى أول دور انعقاد له..« والتى بفضلها كتبت فى مستهل هذا المقال أننا هذه المرة ونحن نتابع مشروع القانون فى مجلس النواب نكاد نقطع بأنه سوف يصدر.. فالمجلس لا يملك ترف التأجيل أن التسويف أو المماطلة وإلا خالف الدستور الذى يلزمه بإصدار القانون فى أول دور انعقاد له، وفى هذا الصدد نحن نعلم أن المجلس المتخم بالأعباء التشريعية -ومن أجل إنجازها- قد قرر امتداد دور الانعقاد الأول حتى نهاية سبتمبر المقبل، وذلك يبدو أنه سيحرم النواب من العطلة البرلمانية حيث سيبدأ دور الانعقاد الثانى فى أعقاب انتهاء دور الانعقاد الأول مباشرة.
وتبقى ملاحظة أخيرة ونحن فى انتظار »قانون بناء وترميم الكنائس«، أنه استرعى انتباهى خبر تناقلته الصحف منذ أسبوعين فحواه أن لجنة الشئون الدينية بمجلس النواب دعت بأن يتضمن مشروع قانون بناء وترميم الكنائس جميع دور العبادة بصفة عامة من أجل إدراك التوازن اللازم، وهو ما يعنى عودة إلى الحديث عن »قانون موحد لجميع دور العبادة« ولأنى كما يتضح من هذا المقال أنحاز لهذا التوجه، أترك الأمر برمته للقانونيين والفقهاء الدستوريين ورجال التشريع للبت فى جدواه من عدمه، لئلا يكون الاندفاع غير المحسوب فى هذا المنحى من شأنه مناقضة نص المادة (٥٣٢) من الدستور وإجهاض مشروع بناء وترميم الكنائس والعودة إلى المربع رقم (١) فى ذلك المسار الطويل المضنى.. ولعل لنا فى المثل الشعبى «عصفور فى اليد خير من عشرة عصافير على الشجرة » أسوة حسنة!!!