قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها (573)
تنشر وطني في هذا العدد مواجهة طال انتظارها ووجب التصدي لها حول قضية ازدراء الأديان بعد أن انفجرت هذه القضية في وجوهنا جميعا بصدور أحكام متتالية بالإدانة ضد مفكرين وكتاب وأصحاب رأي.. الأمر الذي يراه الكثيرون أنه لا يتفق مع ما جاء في الدستور من كفالة الحريات وصون الفكر وتحصينه ضد الملاحقة والتجريم.
وخلافا لما يعتقده البعض من أن تشريعات ازدراء الأديان تعد حديثة العهد بمجتمعنا يتضح أنها تعود إلي عهد الرئيس السادات عندما استخدمت الجماعة الإسلامية منابر المساجد للإساءة للدين المسيحي والتعرض للعقيدة المسيحية بالتسفيه والذم والسخرية والازدراء, فصدر ذلك القانون لتجريم تلك الأفعال.. لكن تبرز المفارقة المؤسفة أنه بينما قصد المشرع من القانون الحد من تجريح أي دين بواسطة أتباع دين آخر حفاظا علي السلام الاجتماعي, لم يتم تفعيل القانون نحو ذلك القصد وتحول إلي ملاحقة كل من تسول له نفسه مناقشة أي أمر متصل بالدين الإسلامي أو سلوكيات أتباعه من المسلمين.. وهكذا سقطت ضحية تلو الأخري من المفكرين والكتاب وأصحاب الرأي لأنهم تجاسروا علي الإسلام بينما ظلت المسيحية هدفا للهجوم والازدراء والتكفير دون أدني محاولة لتحجيم أو تجريم من وجهوا سهامهم إليها!!!
ولأننا اعتدنا أن نصب جام غضبنا علي منصة القضاء كلما صدر حكم قضائي لا يصادف هوانا, دعوني أؤكد أن ما صدر من أحكام في قضايا ازدراء الأديان لا يستقيم أن يكون سببا في استباحة منصة القضاء بالنقد أو الاحتجاج لأن قضاءنا عادل ومنزه عن الغرض, وما صدر عنه من أحكام في قضايا الازدراء هو انعكاس لتطبيق مواد القانون.. إذا فلنواجه التحدي الحقيقي الماثل أمامنا وهو ضرورة إعادة النظر في قانون ازدراء الأديان -وتلك مهمة باتت ملحة يتحتم أن يتصدي لها مجلس النواب- إما بإلغائه تماما أو بتعديل مواده لتتوافق مع الدستور أولا فلا تشكل حجرا علي حرية الفكر والرأي والتعبير وتفصل بشكل قطعي بين دعاة الإصلاح والتطوير والاجتهاد وبين دعاة الهدم والكراهية والتكفير.. ثم لتحديد الجهات أو الأطراف التي يحق لها رفع دعاوي الخصومة في ازدراء الأديان ليكون مسار رفع تلك الدعاوي بعيدا عن العبث بها أو استخدامها للإرهاب الفكري ومصادرة الحريات والتنكيل بالاجتهاد.
ولعل تصدي مجلس النواب لقانون ازدراء الأديان يكون بمثابة أول اختبار حقيقي للدور التشريعي المناط بالمجلس -أول برلمان بعد ثورة 30يونية- فإذا كنا نتطلع إلي إعادة بناء مصر الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة, فذلك لن يكون فقط علي الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي, إنما أيضا علي الصعيد التنويري حيث يتم إعلاء حقوق الفكر والإبداع وحريات الاجتهاد والتطوير وتحصينها ضد رجعية الزج بالدين لتكبيل العقل وإرهاب الفكر.. أو بمعني مباشر هو اختبار مصيري لفصل الدين عن الدولة, ليس نفورا من الدين أو إزاحة له عن حياة المصريين إنما إعلاء للدين في عقيدته وصلاحه ورسوخه, وإطلاقا لما عدا ذلك من عادات وشكليات وسلوكيات لتخضع للاجتهاد والتطوير دون حساسيات.. فتبقي العقيدة ثابتة مصونة وتظل الأمور المتصلة بها متغيرة لتلبي احتياجات الإنسان تبعا لتطور الزمان والمكان.
إذا نجح مجلس النواب بتشكيله الجديد في أن يعيد صياغة قانون ازدراء الأديان بما يحقق تلك المفاهيم -هذا إذا لم يقم بإلغاء القانون أصلا- فإنه يكون قد خطا خطوة تاريخية نحو نقل مصر من موقع الدولة الواقعة في أسر الأصولية الدينية إلي الدولة المنطلقة نحو المستقبل والتي تملك أدوات التقدم والحداثة والعلم والتنوير.. فهل يفعلها مجلس النواب؟