قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها (612)
أسدل الستار علي الانتخابات الأمريكية التي شغلت العالم طوال ما يزيد علي عام بفوز دونالد ترامب, ذلك الفوز الذي لم تستطع وسائل الإعلام أن تضبط نفسها ووصفته بالصدمة التاريخية لأنه جاء ضد كل التوقعات.. صحيح أن المتابعين عبر أمريكا والعالم كانوا منقسمين بين تأييد ترامب ومناصرة غريمته في سباق الرئاسة هيلاري كلينتون, ولكل من الفريقين أسبابه ومبررات انحيازه لأحدهما, لكن جميع مؤشرات استطلاع الرأي ومنابر الإعلام رجحت كفة هيلاري وتنبأت بأن أمريكا في طريقها إلي انتخاب أول سيدة رئيسة للولايات المتحدة في تاريخها, بل واستفاضت في توابع ذلك من التندر بوصول أول رجل أول إلي البيت الأبيض وهو زوج الرئيسة علي غرار ما اصطلح علي إطلاق اسم السيدة الأولي علي زوجة الرئيس!!
جاء ترامب عكس كل التوقعات.. حصد أغلبية أصوات المجمع الانتخابي بالرغم من حصوله علي إجمالي أصوات للناخبين يقل عما حصلت عليه هيلاري من أصوات, لكن هذه هي منظومة الانتخابات الأمريكية التي تحتكم إلي أصوات المجمع الانتخابي وليس إلي التصويت الشعبي, وتلك المرة الخامسة التي يحدث فيها ذلك عبر 45 انتخابات رئاسية في تاريخ أمريكا فقد رجح المجمع الانتخابي الرئيس الحاصل علي أصوات شعبية أقل في سنوت 1824, 1876, 1888, 2000, وها هي تتكرر للمرة الخامسة عام 2016.
لكن ليست هذه هي المفارقة الغريبة الوحيدة في انتخابات هذا العام التي شهدت مفارقات وتجاوزات أخرجتها عن السيناريوهات التقليدية لسابقتها من انتخابات, فقد تقدم ترامب المرشحين عن حزبه -الحزب الجمهوري- ونال ترشيح الحزب بالرغم من افتقاره لأي خبرة سياسية سابقة أو حتي دراية سياسية بأمور العالم الخارجي حتي أنه اعترف في مستهل طريق ترشحه بأنه ليس سياسيا ولا يعرف شيئا عن السياسة لكنه كما قال لم يسبق له أن امتدت يداه إلي شئ وفشل فيه (!!) في إشارة إلي كونه رجل أعمال ناجحا جدا وملياردير واسع الثراء والنفوذ.. ثم جاءت المفارقة الثانية في صلفه ولغته الفظة في تعامله مع خصومه وخاصة غريمته في السباق هيلاري كلينتون مما جعل المناظرات الرئاسية الثلاث التي جرت بينهما من أسوأ المناظرات في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأمريكية وأكثرها انحطاطا في الأخلاق.. وجاءت المفارقة الثالثة الصادمة في تكرار ترامب تهديد منافسته بأنه سوف يدخلها السجن إذا جاء رئيسا وكأنه لا يدرك أن في أمريكا قضاء وقانونا وأن هيلاري إن كانت ارتكبت ما يستوجب وقوفها أمام العدالة والمساءلة فذلك لا يتوقف إطلاقا علي تهديده (!!).. وأخيرا جاءت المفارقة الصدمة التي تعتبر غير مسبوقة علي الأقل في العصر الحديث إن لم تكن غير مسبوقة علي الإطلاق وهي عندما فقد ترامب توازنه وألمح أكثر من مرة إلي تزوير الانتخابات لصالح منافسته هيلاري (!!).. ولعل تلك الجرأة هي التي أفقدته تأييد معظم القيادات الرئيسية في حزبه علاوة علي مجموعة لا يستهان بها من الشخصيات السياسية المحترمة.
بالرغم من ذلك كله فاز ترامب وكما صدم الكثيرين بصلفه وتجاوزاته صدمهم مرة أخري بفوزه, لكن الأعجب من ذلك كله أنه في الوقت الذي توقع خصومه أن يملأ الدنيا صخبا وضجيجا عقب إعلان فوزه وأن يزهو بنفسه ويتمادي في إهانة خصومه, جاءت كلمته أمام أنصاره المحتفلين بفوزه هادئة عاقلة متزنة أثني فيها علي منافسته هيلاري ووصفها بأنها شجاعة خاضت معركة انتخابية بكل تفان وبذلت فيها جهدا خارقا, كما وعد بأنه سيكون رئيسا لكل الأمريكيين وطلب منهم التوحد خلف رئاسته.. وتأملت ذلك التحول غير المتوقع في شخصية ترامب ولغته وتساءلت: هل رهبة المسئولية وضخامة العبء كرئيس لأعتي دولة في العالم هي التي أعادت إليه صوابه؟.. أم أن زعماء حزبه والمحيطين به الذين كانوا قد فقدوا الأمل في بلوغه الفوز فتركوه يتمادي في غيه ليسقط من جراء ما يفعل ويقول وانفضوا عنه, صدموا أيضا بفوزه غير المتوقع فهرعوا ليحتووا جموحه ويضبطوا انفلاته ويعدوه للعمل الجاد الوقور؟!!
لست أدري في الحقيقة ما حدث لكن بالقطع ستحمل لنا الأيام المقبلة ما يؤكد حسم ظنوني: هل تغلب طبيعة ترامب البوهيمية مقتضيات الرئاسة؟.. أم تنتصر مقتضيات الرئاسة علي طبيعته البوهيمية؟!!
وأخيرا أقول للمصريين الذين انحازوا إلي ترامب علي حساب هيلاري بمقولة إن ترامب غير ضالع في السياسات الأمريكية التي تعيث فسادا في الشرق الأوسط وأنه اتخذ في حملته الانتخابية مواقف ضد التطرف الإسلامي وضد الإرهاب وأثني علي مصر باعتبارها ركيزة أساسية للاستقرار والسلام في منطقتنا, بينما هيلاري كانت شريكة في جميع تلك السياسات بل شاركت في فريق الرئيس أوباما الذي يتهم بالتآمر مع جماعة الإخوان علي حساب مصر والمصريين.. أقول لهؤلاء مهلا.. لا تتعجلوا النتائج.. فخبرتنا مع سائر الرؤساء الأمريكيين أنهم يعلنون عن مواقف في مشوار ترشحهم, لكنهم حال وصولهم للبيت الأبيض لا ينفذون أهواءهم الشخصية بل يلتزمون بكل ما يخدم المصالح الاستراتيجية الأمريكية وما تمليه مؤسسات صناعة القرار ومستشارو الرئيس علي كافة أصعدة السياسة والأمن القومي والتوازنات الدقيقة المعقدة.. ولنا في تحليل الرئاسات السابقة علي ترامب ومقارنة ما وعدت به مع ما فعلت أسوة حسنة!!