قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها (604)
من اعتاد أن يستقل سيارات الأجرة البيضاء الحديثة التي تمرح في شوارع القاهرة منذ عام 2009 والتي فرح بها القاهريون عند بدء نزولها الخدمة, بالقطع لاحظ تغيرا ملفتا في سلوك سائقيها بالنسبة للعداد الذي تحتسب بموجبه تعريفة الركوب, فالسمة التي أصبحت غالبة في نسبة غير قليلة من تلك السيارات هي تعطل عدادات احتساب قيمة الرحلة -أو تعطيلها عمدا من جانب السائق- وذلك إما أن يتبينه الراكب قبل استقلاله السيارة عندما يفاجأ بالسائق يساومه علي المقابل المادي أو يتبينه بعد استقلاله السيارة ويستفسر عن الأمر ليجيبه السائق بكل صلف وتحد أن العداد لا يعمل ويشرع أيضا في مساومته علي المقابل.
هذا الواقع العبثي الذي تنفرد به مصر بين سائر دول العالم التي يحكمها القانون أصبح يؤرق طرفي العلاقة في عالم سيارات الأجرة: الراكب والسائق علي السواء… فالراكب يجد نفسه ضحية للاستغلال ويبحث عن القانون فلا يجده, والسائق يجد نفسه ضحية الغبن ويبحث عن العدالة فلا يجدها… وللأسف أنه عندما يغيب القانون وتتراجع العدالة يأخذ المواطنون القانون والعدالة بأيديهم وتعم الفوضي!!!…
إن التاريخ يعيد نفسه في قضية سيارات الأجرة… فالتعريفة السارية -أوالمقترض أنها سارية!!- تم إقرارها منذ نحو سبع سنوات ولم تتم مراجعتها أو تعديلها لتواكب التغير في معايير السوق وتكاليف المعيشة حتي باتت غير عادلة ولا تفي سيارات الأجرة المقابل العادل لتكاليف التشغيل والاستهلاك ناهيك عن تحقيق الدخل الوافي لتكاليف المعيشة… وفي ظل كارثة غياب أي آليات للفحص أو التفتيش أو الرقابة علي عدادات سيارات الأجرة في شوارعنا أفرز السائقون عدالتهم الخاصة إما بتعطيل العدادات وفرض تعريفتهم الخاصة علي الراكب أو العبث بالعدادات لزيادة معدلات احتساب قيمة الرحلة, وهو الأمر الذي لاحظته ومعي الكثيرون وعجزت عن تقويمه!!…
وعندما أقول عن هذا الواقع المريض إن التاريخ يعيد نفسه أذكر ما سبق أن كتبته في هذا المكان بتاريخ 2010/7/18 -منذ أكثر من ست سنوات- تحت عنوان: التاكسي الأبيض يخرج التاكسي الأسود من السوق!!, حيث كنت أحتفي بنزول التاكسي الأبيض في صورة سيارات حديثة نظيفة آمنة بها عدادات لاحتساب تعريفة الركوب بناء علي معايير تناسب أوضاع السوق ويرتضيها كل من الراكب والسائق وتضع حدا للتعريفة السابق تحديدها منذ أكثر من عشر سنوات سابقة علي ذلك التاريخ -أي عام 1996- دون إعادة تقييم أو تقويم حتي بات مشهدا مألوفا في شوارعنا الشجار بين الراكب والسائق علي تعريفة الركوب.. وقمت بالتحذير وقتها من مغبة إهمال تعريفة التاكسي الأبيض وترك السنين تمضي دون مراجعتها بصفة دورية لتواكب تغيرات السوق ومستوي المعيشة حتي لا نفاجأ بسائقي تلك السيارات البيضاء الحديثة وقد أوقفوا عداداتها وبدأوا في تقدير القيمة حسبما يتراءي لهم ويتشاجرون حولها مع الركاب!!
لم أكن أري الغيب وقتها ولم أكن أتنبأ بالمستقبل, لكني كنت أتحسب من تردي وتهرؤ الإدارة المصرية وتغييب العدالة مما يؤدي إلي العبث بالقانون… وهذا عينه ما نعيشه الآن, وأصبحت سيارات الأجرة البيضاء التي كانت يوما جديدة, قديمة بدورها, قديمة لأنها مهملة, وقديمة لأنها تتداعي تحت وطأة التشغيل المستمر دون صيانة وتجديد مناسبين, وقديمة لأنها فقدت رونق وكياسة وعدالة سائقيها وتعريفتهم واستنسخت فيهم مظهر وصلف سائقي سيارات الأجرة السوداء… أما إذا استفسر أحد المواطنين البسطاء الطيبين عن القانون ومعايير التفتيش عن الصلاحية الفنية وآليات مراقبة التشغيل فسوف يكتشف الظاهرة المصرية الفريدة في وجود كل القوانين والمعايير والآليات علي الورق حبيسة التشريعات لكنها لا تغادر الورق إلي حيز التطبيق, الأمر الذي أوصلنا إلي واقعنا الحالي!!!
هل يمكن أن نري صحوة إصلاح تعيد العدالة إلي طرفي العلاقة في سيارات الأجرة؟… العدالة للسائقين بمراجعة تعريفة الركوب وتحديثها لتواكب متطلبات عام 2016, والعدالة للركاب باستحداث حملات مفاجئة علي الطرق لمراقبة تشغيل العدادات طبقا للتعريفة الموضوعة… وأخيرا وحتي لا يعيد التاريخ نفسه مرة ثالثة بعد ست سنوات من الآن (!!)… هل يمكن أن نسن التشريعات الملزمة بدورية مراجعة ذلك كل فترة زمنية محددة؟!!… إذا لم نفعل ذلك فلنعد أنفسنا للاحتفاء بالتاكسي الأصفر ليحل محل الأبيض!!… ومن بعده نجئ بالتاكسي الأحمر ليحل محل الأصفر!!… وهكذا دواليك!!!… وكأن تغيير اللون هو المطلوب… صحيح شر البلية ما يضحك!!