قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها (605)
بناء علي القرار الجمهوري الذي أصدره الرئيس عبدالفتاح السيسي في 22 سبتمبر الماضي يستهل بعد غد الثلاثاء مجلس النواب دور الانعقاد الثاني بعد إجازة قصيرة لالتقاط الأنفاس جراء السباق المحموم الذي انغمس فيه في دور الانعقاد الأول والذي لاح للبعض أنه لن يسمح بإجازة تشريعية من فرط المهام التي كان يتوجب علي المجلس إنجازها.
ومن البديهي أن تنصب اهتمامات الدوائر السياسية ومعها الإعلام والرأي العام علي اكتشاف ملامح هذه الدورة البرلمانية الجديدة, فهناك بقية التشريعات المختلفة من دور الانعقاد الأول والتي لم يتمكن البرلمان من إجازتها, علاوة علي الأجندة التشريعية الجديدة التي سوف تتقدم بها الحكومة أو الكتل البرلمانية في المجلس.. هذا بالإضافة إلي الجانب الرقابي للمجلس في رقابة ومساءلة السلطة التنفيذية -ممثلة في الحكومة- حول برنامجها وميزانيتها وخططها وأدائها في إدارة شئون البلاد.
ولعل المتابعين لمجريات الأحداث يلحظون أن حكومتنا لم تأل جهدا في إثارة شهية البرلمان في استدعائها للمساءلة, فقائمة القضايا التي تقتضي ذلك ليست قليلة, لكن بالقطع أري هناك استنفارا لتفجير القضية التي شغلت الكافة الشهر الماضي وهي قضية استيراد القمح من روسيا واللغط الذي أثير حول محتواه من فطر الإرجوت ومدي مطابقته للمعايير الدولية المعترف بها, والتخبط البشع بين الوزارات المعنية -الزراعة والتموين والتجارة الداخلية- في السياسات والقرارات والتصريحات, حتي أدي الأمر إلي رفض السلطات المصرية دخول شحنات قمح متعاقد عليها بالفعل بعد وصولها إلي الموانئ المصرية, وذلك أوقع مصر في خطأ خطير كان من نتيجته إصدار السلطات الروسية قرارا انتقاميا بمنع استيراد المنتجات الزراعية المصرية, ولكن يحسب للسلطات الروسية أنها لم تضر بتعاقدات مبرمة بالفعل ولم تمنع وصول شحنات في عرض البحر في طريقها إليها وقابلت التخبط الإداري اللاحرفي المصري بمسلك حرفي من جانبها.
الشئ الملفت والعجيب أن مجلس الوزراء لم يعر القضية الاهتمام الواجب, ولم يتنبه لخطورة التناقض وعدم التنسيق في السياسات والقرارات بين كل من وزير الزراعة ووزير التموين والتجارة الداخلية -وهو ليس الحالة الأولي التي تربك البلاد بعد أزمة عدم التنسيق بين وزراء المالية والاستثمار ومحافظ البنك المركزي- وترك الأمور تخرج عن حدود السيطرة حتي وقت الواقعة واستيقظ المجلس علي دوي القرار الانتقامي الروسي, واكتشف أنه كما يقول المثل ضرب نفسه بعكازه!!.. فبدأ يتحرك لإصلاح ما أفسده وزراؤه وعقد جلسة لبحث كيفية الخروج من المأزق الذي أوقع نفسه فيه حيث قرر التراجع عن قرار وزير الزراعة منع دخول القمح الروسي وسرعة إيفاد لجان رسمية لتدارك آثار القرار الروسي بتعليق استيراد المنتجات الزراعية المصرية.
حاول مجلس الوزراء عدم إراقة ماء وجهه بتجميل قراراته التصحيحية وإلباسها ثوب التأكيد علي اتباع قرارات وسياسات سابقة تعود لعام 2010 وإقرار احترام نسبة فطر الإرجوت المنصوص عليها في مواثيق وقرارات الهيئات والمنظمات الدولية, لكن ذلك لم ينطل علي أحد وباتت السقطة ترقي لمستوي الفضيحة في كشف المدي المحزن لانعدام التنسيق واليقضة في السياسات, علاوة علي الرعب الرهيب الذي ينتاب بعض الوزراء في التعامل مع أي قضية ترتبط من بعيد أو قريب بصحة الإنسان المصري فيجعلهم يؤثرون السلامة ويبتعدون عن مواجهتها تماما لدرجة اتخاذ قرارات كارثية تضر بالاقتصاد وبالمصلحة القومية وبالعلاقات الدولية.. والمصيبة ما يتبينه الرأي العام بعد ذلك من خلال تضارب التصريحات والخناقات الوزارية من أن الأمر لم يكن يستحق ذلك الاندفاع أساسا وأن صحة الإنسان المصري لم تكن علي المحك!!!
كنت أتوقع أن يتولي مجلس الوزراء ضبط وتقويم نفسه من خلال مساءلة وزير الزراعة عن المشكلة التي خلقها بتعنته وعناده -وقد يكون بخوفه- لكن شيئا من ذلك لم يحدث أو علي الأقل لم يعلن للرأي العام, وذلك استفز بعض نواب البرلمان وصدرت عنهم ردود الفعل الغاضبة التي تلوح بنية اللجوء إلي القنوات البرلمانية لدي انعقاد المجلس في دور الانعقاد الثاني لاستجواب الحكومة بخصوص كيفية إدارتها أزمة الأقماح المستوردة ومحتوي فطر الإرجوت فيها والملابسات التي أدت إلي تداعياتها السيئة علي الاقتصاد المصري والعلاقات المصرية- الروسية.
إذا.. يبدو أننا مقبلون علي بداية ساخنة لدور الانعقاد الثاني لمجلس النواب, وأتطلع إلي أن تسودها مناقشات موضوعية غير متشنجة تساهم في ترسيخ الدور الرقابي للسلطة التشريعية وتخطو خطوة نحو النضج الديمقراطي الذي نصبو إليه.