أنهينا طريق أبورواش واتجهنا يمينا لعزبة عبدالعزيز محمد التابعة لكفر حكيم مركز كرداسة بمحافظة الجيزة. والعزبة مساحة ليست كبيرة في قلب منطقة زراعية. يسكن بها حوالي 66 أسرة أحوال أغلبهم المعيشية غاية في الصعوبة. ويزيد حالتهم عناء أنهم يرون إصابة أطفالهم بأشد الأمراض خطورة جراء ما يسمي بمكامير الخشب. فالبعض هناك يقوم بحرق الخشب للحصول علي الفحم. ولكم أن تتخيلوا ما يسببه ذلك من أدخنة وملوثات. تحدثنا مع المتضررين ومسببي الضرر ثم طرقنا أبواب المسئولين آملين ألا يلقي بالمشكلة أدراج المصالح الحكومية.
علي مشارف العزبة كان ينتظرنا الحاج عادل حسين أحد المتضررين وقال: مكامير الخشب عبارة عن أحواض تعبأ بالخشب الذي يتم حرقه للحصول علي الفحم لمدة تتراوح من عشرة أيام إلي أسبوعين بشكل متواصل ليلا ونهارا ثم تطفئ بالمياه لمدة يومين وينقل الفحم ثم تعاد الدورة مرة أخري. ويخرج من المكمورة دخانا قليلا في النهار من خلال فتحات صغيرة وذلك للحد من شكاوي المواطنين أما ليلا فتوسع الفتحات للتعجيل بعملية الحرق, ينتج عن ذلك خروج كميات كبيرة من الدخان فتغلق نوافذ منازلنا ليلا طوال فترة عمل المكمورة, ونظرا لوجود عدد كبير من المكامير تعمل معا في نفس الوقت أو تعمل تباعا فنضطر لإحكام غلق النوافذ معظم السنة وتزداد معاناتنا في الصيف فلا نستطيع تهوية منازلنا ولا استنشاق هواء نظيف فالحرارة الشديدة داخل منازلنا والدخان الخانق خارجها.
قدمنا شكوي لرئيس المجلس المحلي لكفر حكيم ووعدنا بحل المشكلة لكن دون جدوي, حيث صدر أكثر من قرار إزالة للمكامير. وتأتي الشرطة للتنفيذ ولكن ما يحدث أثناء التنفيذ إزالة أجزاء بسيطة من جسم المكمورة وليس له أدني تأثير علي عملها ثم تغادر الشرطة ويستكمل أصحاب المكمورة عملهم فهم لديهم النفوذ والمال. وكل ما يريدونه يفعلونه دون أن يوقفهم أحد.
أما ص.ح فقال: أصبت بحساسية في الصدر,تم احتجازي في المستشفي لمدة 15 يوما بسبب الهواء الملوث الذي نستنشقه. وللأسف طلب مني الطبيب إيقاف العلاج لأنني أعاني من مرض مزمن آخر. وأنا الآن أعيش جوار المكامير, ولا أستطيع استكمال علاجي….فماذا أفعل؟ وهل سأظل أستنشق هذا الدخان حتي أنتهي تماما؟
وهذا رجل في الأربعين من عمره يعاني وقال لنا: لدي ثلاثة أبناء يعاني اثنان منهم من مشاكل في الصدر أما ابنتي الكبري فلم تشكو لأننا جئنا للسكن في هذه العزبة وعمرها تجاوز العشر سنوات أما الصغيران فحساسيتهما الصدرية مستمرة لأنهما بعد تناول العلاج يتماثلان للشفاء ثم بعد فترة تعود إليهما الحساسية.. ونظرا لانخفاض دخلي لا أستطيع المتابعة المستمرة لدي الأطباء (هاجيب منين؟).
أثناء تحدثنا مع الأهالي قدموا لنا الكثير من التقارير الطبية والروشتات التي تفيد بأنهم وقعوا فريسة للأمراض الصدرية المزمنة.
الدخان غير مضر!!
أنهينا حديثنا مع الأهالي ثم سرنا مسافة لا تتجاوز المائة متر من منازل المتضررين. فشاهدنا أحد المكامير ويجلس بالقرب منها أحد أصحابه وعماله. وقالوا: أنشأنا هذه المكامير دون أي إجراءات أو تراخيص ولن يشكو أحد من الدخان الناتج وأنا منزلي يقع علي بعد 50 مترا منها ولا يوجد أي ضرر علينا!!
وذات مرة لاحظت خروج دخان كثيف منها فأغلقتها علي الفور وقمت بإعادة ضبطها, وجاءت الشرطة في إحدي المرات وحررت لنا محاضر وقضايا فقط ولم تتخذ ضدنا أي إجراء! يعني لو كنا بنعمل حاجة مضرة الشرطة سابتنا ليه وإزاي؟! وهناك مكامير أخري لم يحرر ضدها أي محضر. فالدخان لا ينتج عنه أي ضرر!
سألت هذا الشخص الذي يتحدث معنا عن صحته وأسرته فأجاب: أنا أعاني من حساسية الصدر وكذلك زوجتي وابني. لكن ليس من الدخان وإنما هي وراثة!! اندهشت من استمرار هؤلاء في إنكارهم للآثار الضارة للدخان الناجم عن المكامير علي الصحة العامة والهواء والبيئة فسألت عن العائد المادي.
أخبرني أحد المهندسين الزراعيين – رفض ذكر اسمه – أن المكمورة يصل حجمها إلي 60م مكعب خشب تنتج 48م مكعب فحم 2 يعبأ في 400 شيكارة ويزن المنتج النهائي 16 ألف كيلو ويباع كيلو الفحم من 3 إلي 5 جنيهات. هذا فقط ناتج عمل عشرة أيام.
اختناق.. إجهاض.. سرطان
كان لابد لنا من معرفة آثار حرق الأخشاب علي صحة الأهالي بالتحديد التقينا الدكتورة سلوي فاروق مدرسة طب الصناعات بالمركز القومي للبحوث التي أكدت علي خطورة حرق الأخشاب علي الصحة العامة. لأنه كي نحصل علي الفحم سيخرج للهواء أول أكسيد الكربون وثاني أكسيد الكربون ذلك بالإضافة إلي بعض المواد الكيميائية الدقيقة التي تقلل من نسبة الأكسجين في الهواء. وسيؤثر ذلك سلبا علي الأطفال وكبار السن بشدة خاصة إذا كانوا يعانون من أمراض مزمنة. وقد يسبب لهم اختناقا وأزمات ربوية وصدرية وسرطان الرئة والجلد, وإذا كانت الأخشاب قطعت من أشجار تم رشها بمبيدات فيستنشقها المجاورون للمكامير, وستؤثر علي الجهاز العصبي والجهاز التناسلي خاصة لدي المرأة. حيث إن هذه الملوثات تسبب لها إجهاض إذا كانت حاملا في شهورها الأولي. وإذا كانت أخشاب هذه الأشجار تم طلاؤها قبل قطعها فسيؤثر ذلك علي الكبد والكلي والجهاز العصبي. وللأسف ستظل هذه الأمراض موجودة ومستوطنة طالما لم يتم القضاء علي مسبباتها.
التطوير أو الملاحقة
للوقوف علي دور وزارة البيئة حيال هذه الأعمال الملوثة للبيئة التي تغتال صحة المواطنين تحدثنا إلي الدكتور عطوة حسين مدير عام فرع القاهرة الكبري والفيوم بجهاز شئون البيئة وأشار إلي أن هناك ثلاث خطوات تتخذ حيال مكامير الفحم. الأولي هي تطويرها وذلك للحفاظ علي فرص العمل والعائد الاقتصادي منها. لذا تم التنسيق مع وزارة الصناعة لوضع مواصفة قياسية للحدود القصوي للانبعاثات الصادرة عن المكامير وأخطرها أول أكسيد الكربون والحد الأقصي له 500 مليجرام في المتر المكعب وتم أيضا التنسيق مع أكثر من جهة معنية بالتكنولوجيا المطورة. لتصميم فرن بمواصفات قياسية نتلافي فيه مشاكل المكامير البلدي ونخرج بفرن مطور آمن علي الصحة العامة والبيئة.
أما الخطوة الثانية فهي التفتيش والملاحقة القانونية لكل المخالفات التي تحدث أثناء حرق الخشب وتحريرها محاضر بيئية وتوقيع عقوبة علي المخالف تتحدد بناء علي الضرر الناجم عن الحرق, ويتم متابعة المحضر من خلال تعاون كل من الإدارات القانونية التابعة للوزارة مع أقسام الشرطة المنتشرة في المحافظات.
الخطوة الثالثة التي تتحد هي إيقاف عمل كافة المكامير تماما ضمن الأنشطة الملوثة للبيئة أثناء فترة السحابة السوداء بدءا من أول سبتمبر حتي منتصف نوفمبر.
غرامة كبري وحبس
لتحديد حجم العقوبة التي تقع علي المخالفين توجهنا إلي اللواء عصام بهجت مساعد وزير البيئة للشئون القانونية أوضح أن عقوبة غير الملتزمين بالحدود القصوي للانبعاثات تبدأ من ألف جنيه وتصل إلي عشرين ألف جنيه, وفي حالة العودة وتكرار المخالفة يتم توقيع عقوبة الحبس مع ذات الغرامة.
أما بالنسبة لسبب عدم توقيع العقوبة علي المخالفين وعدم جدوي المحاضر البيئية, فأوضح اللواء عصام بهجت أن كل من يخالف تصدر ضده العقوبة المناسبة. لكن المشكلة أن الكثير من هذه العقوبات لا يتم تنفيذها علي الفور لأن حكم المحكمة يصدر غيابيا وهذا يشكك في إمكانية التنفيذ السريع للحكم, والمسئولية هنا تقع علي كل من شرطة البيئة ووحدة تنفيذ الأحكام.
في نهاية حديثنا مع مسئولي وزارة البيئة, أوضحنا لهم عنوان العزبة بالتحديد ووعدونا بسرعة المعاينة واتخاذ الإجراءات اللازمة. ونحن نأمل في تحقيق هذا الوعد. ولكن إن لم يخش الناس علي صحتهم وصحة ذويهم لن تفلح العقوبات.. هذه مناشدة لأصحاب المكامير.