اريد أن أموت… هكذا قالت ف.ح.. تعمل خادمة فى المنازل وتقول: “زوجي دخل السجن منذ 7 سنوات وترك فى رقبتي أربعة أطفال وبعت كل ما أملك للصرف على قضية زوجي وخرجت أبحث عن عمل بالفعل.. والأن اقوم بالخدمة فى المنازل بعيدة عن المنطقة التى اسكن فيها.. حتى لا يشعر اولادي بالخجل مني.. فاقوم من السادسة صباحا اجهز الفطار للاولاد ثم أجرى على المواصلات واعمل حتى الرابعة أو الخامسة مساءا.. بعدها اذهب للسوق احضر طعام للاولاد واعود للمنزل لتجهيزه محملة بالقدر الكافي من التحرش بالنظر أو الكلام لأدخل منزلي منكهة لأواجه الأولاد.. واحد تشاجر مع اخيه والثانى عايز فلوس يجيب لاب توب.. وأنا مطحونة وبأسمع كلام الشفقة واشعر بالذل واللي تعرف من الستات ان جوزي في السجن ما تطلبنيش تاني وانا طول الوقت بافكر وعقلي مش بيهدا واخاف على مستقبل الاولاد وهما مش حاسين بحاجة بفكر انتحر وارتاح..”
هذه صرخة إمراة معيلة معرضة للضغوط النفسية التي تخلقها الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الشديدة.. التى تؤدي إلى تعرض الكثير منهن إلى اضطرابات نفسية ويصبحن أسيرات العقد النفسية. الأمر الذي يجعلهن يفضلن العزلة والتواري عن المجتمع وهذا يولد حالات من الكآبة والقلق والخوف.
ومن المؤكد أن غياب المعيل المفاجئ – أيا كان سببه – يولد حالة من الإرباك لدى الأسرة بأكملها وقد يتفاعل الشعور بالوحدة مع الخلل العاطفي والشعور بالخيبة والحرمان والانكسار، مما يدفع المرأة – خاصة ضعيفة الإيمان – إلى الانتحار في بعض الأحيان. وفى احيان اخرى قد يدفع بها الالم النفسى الى ذبح اطفالها ومحاولة الانتحار!! كما قرأنا عن حادثة الهرم الأخيرة..
فى هذا الموضوع نقدم استغاثة من المرأة المعلية لعل المجتمع يسمعها..
بلا مبرر يذكر.. يجلس الزوج أو الابن فى المنزل بدون عمل متعللا بعدم وجود وظيفة تناسبه.. أو أن ما سيحصل عليه من راتب من العمل المتاح لا يستحق العناء، أو يترك المنزل ويهجرها مع أولادها ويذهب بدون رجعة.. وفى جميع الحالات تجد المرأة نفسها – على اختلاف مستواها الإجتماعي – تبحث للابن أو الزوج عن عمل، وغالبا ما تفشل فى بحثها هذا لعدم وجود الدافع لدى من تبحث له عن عمل. والنتيجة أنها تجد نفسها فى النهاية هي من تأخذ بزمام الأمور وتعمل لإعالة أطفال صغار، قد لا يكون لهم ذنب فى ما أصاب الكثير من الرجال داخل المجتمع المصرى من خنوع غريب!
فقد كانت المرأة على مر العصور مصانة وغير مهانة وفى أشد الحالات عوزا كانت تعمل لإعالة أبناء يتما أو زوج مريض.. أما اليوم فتجد من لا يخجل من زوجته أو أمه حين تعود بعد يوم عمل شاق وهو إما نائم أو جالس أمام التلفاز.. المرأة باتت تتحمل المسئولية الكاملة فى المنزل ومسئولية الأبناء من مأكل وملبس ومصاريف مدارس وجامعات، وفى غالبية هذه الحالات الزوج لا يعمل ليس بسبب البطالة – فهو يستطيع ايجاد عمل بسهولة فى مجاله – ولكن لعدم وجود إحساس المسئولية لديه تجاه أسرته. فيفضل البلطجة وضرب الزوجة التى تنفق عليه وعلى أولاده والراحة فى المنزل.. وعمله الوحيد أن يتسلم أولا بأول من الزوجة المسكينة ما تقبضه.. والأدهى أن بعضهم يشتري بأموال الزوجات التى يستولى عليها المخدرات التى يدمنها وتستولي عليه هو شخصيا.
ولأن من يملك المال هو من يتحكم، فخاف الرجل وبالغ فى قهرها وإذلالها حتى لا تصبح هى “رجل البيت”, لذلك فقد أصبحت عرضة للمرض النفسى ونسى الزوج ومعه المجتمع أن المرأة هى الحضن للأطفال والسكن والملاذ الآمن للزوج.
تقول س ع من منطقة إمبابة: “عندي خمس عيال – ثلاث صبيان وبنتين ومطلقة منذ اربع سنين.. ومنذ طلاقي وزوجي لا يقدم للأولاد أي مصاريف وحتى قبل الطلاق لم يصرف على العيال.. وعلى فكرة كان أبوهم قبل كدة على طول نايم في البيت وأنا أجيب له السجاير ومع ذلك طلقنى وتزوج بأخرى، وقمت أنا بتحمل المسئولية واشتغلت في البيوت وصحتي ضعفت جدا من تربية العيال, والخدمة في البيوت. أنا كل اللي طلباه أن الحكومة تبص لنا شوية وتعرف أن إحنا موجودين ومحتاجين.. أنا نفسي أتعالج وأربي عيالي”
وتروي رضوى… “أنا متزوجة من22 سنة وعندي أربع عيال.. زوجي مريض بإنزلاق غضروفي ولما الحال ضاق اشتغلت في خدمة البيوت. وتعرضت لمعايرة أهلي وأهل زوجي والأولاد نفستيهم تعبت.. وأخيرا لاقيت ورشة لتصنيع العبايات ولكن الأجر لا يكفي والحياة غالية جدا..”
اما عايدة فتقول: “حكايتى صعبة كان زوجي يعمل فى احد مصانع العاشر من رمضان, ومن خلال واحدة معرفتي عرفت أن ناس عندهم ست مريضة جدا ومحتاجين حد يساعدهم فى خدمتها، رحت وأنا اعتبرها حاجة لربنا وماكنتش عاوزة أي مقابل، لكن بناتها لما شافوا إني بخدمها بمحبة صمموا وقدموا لي مبلغ على سبيل الهدية, الست توفيت بعد مدة وبناتها طلبوا اساعدهم فى المنزل وهما ناس محترميين وكانوا بيدوني أجر كويس. شهر والثاني ولاقيت زوجي قعد من الشغل اللى عمره ما خد منه اجازة والأولاد طلباتهم لا تنتهى. كنت فاكرة اني حا ساعد وبس لكني لاقيت الموضوع كله اترمى على كتافي وهو يروح يوم ويغيب يومين.. وأنا على الحالة دى منذ خمس سنوات وبدل ما كنت بشتغل عند الناس دول بس، لاقيت نفس مضطرة أروح عند أي واحدة تطلبنى.. نفسيتي تعبت وكرهت نفسي والشغل والعيال. لكن لا مفر من المكتوب على الجبين..”
كشفت احصائية حديثة للمركز القومي للبحوث الإجتماعية والجنائية أن نسبة المرأة المعيلة في مصر وصلت إلي 34% في العديد من الحالات طبقا للظروف الإقتصادية والإجتماعية السيئة وتخلى الرجل عن مسئوليته تجاه الأسرة.
عن هذه الاحصائية تقول الدكتورة “عزة كريم” – استاذ الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الإجتماعية والجنائية: “لا يمكن أن ننكر أن وجود المرأة المعيلة في مجتمعنا تحول إلى ظاهرة بعد تزايد أعداد النساء المعيلات خلال الفترة الأخيرة حيث تأكد أن نسبة المرأة المعيلة في مصر وصل إلى 15% كحد أدني و34% كحد أقصي.”
المشكلة تكمن في أن كثير من الرجال تخلوا عن دورهم الأسري، فالزوج مثلا إما أن يكون عاطلا أو هاجرا لبيته، لذلك لا تجد المرأة المطلقة أو الأرملة سوي الخروج للعمل وقد تضطر لقبول أي عمل وبأي أجر في حالة سجن الزوج أو عجز الرجل. حتى الزوجة التي تعمل ويزيد دخلها عن دخل الزوج يكون لراتبها دور أساسي في الإنفاق على المنزل وهو ما يمثل نوعا من أنواع الإعالة للأسرة أيضا.
المرأة المعيلة تعمل في سوق غير رسمية وبالتالي فهي تفتقد إلى التأمينات أو التعويضات وكذلك للرعاية الصحية، كما أن خروج المرأة للعمل في ظل غياب الزوج له سلبيات عديدة على الأبناء، حيث تغيب السيطرة والقدوة فنجدهم يتجهون للإنحراف والهروب للشارع ومن ناحية أخري تفتقد المرأة دورها في المشاركة في الحياة السياسية بسبب انغماسها في مشاكل الأسرة الاقتصادية والاجتماعية.
تقول الدكتورة “زينب عفيفي” – أمين عام المرأة بالمجلس القومي للمرأة: “بالفعل أصبحت نسبة المرأة المعيلة في مصر توازي تقريبا ربع عدد السكان في أي محافظة كما أنها تزداد بنسبة أكبر في محافظات الوجه البحري والقاهرة.. خاصة في المناطق العشوائية والفقيرة، كما أن الظروف الاقتصادية ساعدت على هجرة الرجال من بيوتهم في محاولة لإيجاد سبيل للرزق في أماكن أخري – سواء داخل مصر أو خارجها- فقديما كان هناك إلتزام أخلاقي من الرجال تجاه الزوجات والأبناء لكن للأسف اليوم لم يعد هذا الالتزام موجودا، فبمجرد شعوره بوجود ضغوط اقتصادية واجتماعية يترك منزله ويتخلي عن مسئوليته تجاه أسرته وقد يتجه للهجرة أو يتزوج من أخري في المكان الذي يهاجر إليه، خاصة أنه مع وجود زيادة في نسبة العنوسة لم تعد الأسرة المصرية تضع القيود أو الضمانات الكافية لبناتها نتيجة لخوفها من هذا الشبح.”
وما نأسف له فهو تخلي الرجل عن دوره في ظل الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي يمر بها، واصبح يعتمد على المرأة في الانفاق وتولي المسئوليات المختلفة.
ولكن هل يؤدى القهر الذى تلاقيه المرأة وأعباء إلى تأثر حالتها النفسية؟
يقول “د. محمد المهدى” – استشارى الطب النفسى: “المرأة هى عماد الأسرة ولذلك إذا حدث اضطراب نفسي لأي فرد من أفراد الأسرة، فإن عبء ذلك الاضطراب يقع على الأم مباشرة، فإذا أصاب الزوج شيخوخة كانت الزوجة هناك ترعى شيخوخته وتتحمل اضطراب سلوكه، وإذا انحرفت البنت نفسياً أو أخلاقيا نهضت الأم بعبء الستر واللملمة لكيان ابنتها المفتضح المتناثر، وإذا تورط الابن فى الإدمان وقفت الأم فى الصف الأول تتلقى الضربات وتحاول إصلاح ما فات. وقياسا على هذا أي مريض فى الأسرة يتكئ ويلقي بحمله وأعبائه على الأم، فهى التى تسهر وهى التى ترعى وهى التى تنظف وهى التى تستر وهى التى تلملم.
ولكن الكارثة الأكبر تقع حين تتزلزل الأم ويتصدع بنيانها، أي حين تصاب بمرض نفسي فهنا يهتز المركز وبذلك يصبح البنيان الأسري بأكمله معرض للتناثر حيث أن القوة الضامة الرابطة ممثلة فى الأم.. وإن اهتزت فكيف نتخيل حال الأسرة وقد أصيبت الأم بالفصام (الشيزوفرينيا) واضطربت بصيرتها واختل حكمها على الأمور وتشوه ادراكها؟ كيف فى هذه الحالة ترعى أطفالها وتلبى احتياجات زوجها؟ كيف نتخيل حال الأسرة وقد اصيبت الأم بالاكتئاب الذى يجعلها عاجزة عن فعل أي شئ لنفسها فضلاً عن غيرها؟ ويجعلها كارهة كل شئ حتى نفسها وأطفالها وزوجها بعد أن كانت هى منبع الحب والحنان. ولذلك فإصابة الأم بالمرض النفسي يعتبر بكل المقاييس كارثة متعددة الأبعاد تستدعي رعايتها فى المقام الأول وبسرعة وفاعلية. لذلك فحماية المرأة فى الأساس هى حماية للأسرة والمجتمع.”
كل النساء معيلات!!
كل النساء معيلات.. هذا ما أكدته أحدث دراسة للأمم المتحدة وهو ما يتناقض مع العرف السائد في معظم المجتمعات أن الإعالة حكر على الذكور حتى لو كان هذا الذكر لم يتجاوز الـ15 عاما من عمره..
واستندت دراسة الأمم المتحدة في هذا الأمر على تتبعها لدورة حياة العديد من الأسر في الدول النامية بشكل خاص، فكانت هذه الحقيقة أن كل النساء يمررن بمرحلة في حياتهن يكن خلالها هن العائل الوحيد في أسرهن بسبب الطلاق أو الهجر أو زواج الزوج بأخري أو دخوله السجن أو وجود زوج مع إهماله الإنفاق علي أولاده.
إن مشكلة النساء المعيلات لا ترتبط بتوفير سبل الحياة الكريمة لهن ولأولادهن فقط، ولكنها تفرز مشاكل عديدة أولها اعتلال صحة المرأة.. ففي أحدث دراسة لوزارة الصحة ثبت أن20% من النساء المعيلات يعانين من أمراض مختلفة كما أن 38 % من هذه الأسر يضطر أطفالها إلى الإنخراط في مجال العمل لمساعدة الأمهات.
وفى دراسة قامت بها الدكتورة “ايمان بيبرس” حاولت فيها فهم حياة النساء المعيلات لأنواع من النساء المعيلات وهن: الأرملة ـ المطلقة ـ والمهجورة – وزوجة العاطل – زوجة الأرزقي – زوجة المريض – الزوجة الثانية – زوجة العاجز والمريض…
عداء بين الموظفين والفقراء:
النساء المعيلات مستبعدين من برامج التأمينات الاجتماعية وهذا الاستبعاد مرتبط بشكل كبير بصعوبة الإجراءات والشروط المطلوبة للحصول عليه أو التقديم له.. وأسلوب معاملة الموظفين وموقفهم من هذه الفئة الغلبانة. والغريب أن الموظف ينفر من خدمة مواطنين أقل منه شأنا.. مثل صغار الباعة وعاملات المنازل..
وفي الضمان الاجتماعي تهمش المرأة المعيلة بسبب ضعف الميزانية وضرورة تقديم البطاقات الشخصية، ولذلك كان كثير من النساء يكرهن التقديم للاشتراك في برامج الإعانات الاجتماعية خوفا من الإهانة والبهدلة نتيجة للعلاقة العدائية التاريخية بين موظفي الحكومة والفقراء.. وخاصة النساء المعيلات لأسرهن..
واثبتت هذه الدراسة ان أعلي نسبة “للستات الشقيانة” كانت في الأرامل وتليها المطلقات. ولكن أحيانا لا يستطيع البعض من هؤلاء من الحصول على الضمان الاجتماعى اذا وجدوا من يساعدهم على استيفاء الأوراق المطلوبة للحصول على الضمان.
حلول واجبة:
خلال سنوات طويلة قدمت العديد من التوصيات والمقترحات لهذه المشكلة الإنسانية منها:
اعطاء الأولوية لتشغيل المرأة المعيلة وأبنائها من خلال البرامج الحكومية وجمعيات رجال الأعمال والمشروعات الصغيرة.
وتسهيل اجراءات تنفيذ أحكام النفقة..
وإنشاء صندوق للنفقات في بنك ناصر واقرار نطاق تأمين علي الأسرة – علي غرار التأمين الإجباري علي السيارات – لحماية المرأة من المخاطر التي تتعرض لها في حياتها…
كما دعا المجلس القومي إلي انشاء صندوق للمرأة المعيلة وإنشاء قاعدة بيانات لها من أجل دعم مشروعات القروض الصغيرة التي اثبتت الدراسات أنها هي المدخل الاقتصادي الوحيد الذي يحمي هذه الفئة من النساء التي يمكن اعتبارهن تحت خط الفقر.