فى عام 1930 كان زوار دار البطريركية يلتقون فى فنائها براهب صغير السن، صغير الجسم، فكانوا يمضون فى طريقهم ولا يلقون له بالا، فقد إعتادوا على أن يروا فى البطريركية ضخام الأجسام يملأوون العين كما كان يطلق وقتها… ولكن إذ أتيح لبعض الزوار أن يتحدثوا إلى ذلك الراهب النحيل وأن يجلسوا معه كانوا يخرجون من اللقاء الأول مأخوذين مبهورين… ثم لا يلبثوا أن يعودوا إلى القصر البطريركى لا لشئ إلا لمقابلة الراهب الصغير …. ولم يكن الذى يدهش الناس ويبهرهم فى الراهب أناقة أو طلاقة لسان ولكن كان فيه شئ آخر …. هو الإيمان المتغلغل إلى أعماق النفس والمنبثق مع الكلمات والحركات …. هكذا كتب الصحفى الراحل “مسعد صادق” عن مثلث الرحمات “أنبا ميخائيل” مطران أسيوط فقد جمعتهما علاقة محبة منذ أن بدأ مسعد صادق رحلته الصحفية من أجل الدفاع عن المظلومين ووقتها كان أنبا ميخائيل أصغر مطران فى أكبر إيبارشية…. فتعالوا معنا نستطرد مذكرات نادرة عن انبا ميخائيل ومنه أيضا… بحثنا عنها فى بعض المجلدات القديمة منها جريدة الفداء والنيل ومصر …
كان عهد إلى الراهب الصغير “ميخائيل” بمنصب السكرتير فى القصر البطريركى ، وكان قد توالى على أعمال السكرتارية فى القصر البطريركى رهبان كثيرون بعضهم رقى إلى منصب المطران والبعض الآخر عاد إلى قواعده فى الدير بعد فترة طالت أو قصرت … ولكن واحداً من اولئك الرهبان لم يمض فترة منذ أن أصبح راهباً حتى “اختطفه” ابناء الابروشية الكبيرة الشاغرة اسيوط … وجلس الراهب صغير السن على الكرسى الذى كان يشغله أكبر مطران رقى إلى منصب البطريركية وهو انبا مكاريوس البطريرك الراحل.
طول فترة حياته كراهب أولا ثم مطران عهد إلى الدير بكثير من الرعاية والإهتمام فأصبح بحق مزاراً سياحياً وفى أيام نهضة العذراء يصبح الدير كالعروس فى أبهى صورها … الراهبات يقمن بأعمال خدمية وأنشطة والكشافة من أبناء الدير يتطوعون لتنظيم الدخول…. أنشأ انبا ميخائيل الكثير من المبانى الملاحقة للدير لسكنى الزوار والضيوف… هذا إلى جانب الكثير من الإستراحات دون تمييز بين غنى أو فقير فكان الدير نموذج لسيرة حياة مثلث الرحمات فى النظام والمحبة والتواضع.
ومن مآثر حياته: منذ أن تولى أنبا ميخائيل مسئولة تركة ثقيلة وهى إيبارشية أسيوط وهو عف عن أية مظاهر للترف أو أستجلاب الأموال فوفر من تلقاء نفسه على الموتى من الراحلين وعلى الموتى من الأحياء عناء التفكير في اية أمور مادية وأعلن أنه لن يسير فى جنازة أى شخص كبير أو مسئول وعاش طليلة حياته حتى اشتد به المرض زاهداً فى الحياة والمأكل والمسكن فكان يخدم نفسه بنفسه وعمر كان متجاوز الثمانين وكان كل من يقترب منه للسلام كان يرفع الصليب ليقبله بدلا من يده .
كان مثلث الرحمات عفاً أيضا فى اية مناصب وكان غيوراً جدا على الكنيسة الارثوذكسية ففى عهد البابا يوساب وقعت خلافات بين البابا وبعض الشباب القبطى الذى كان مطالباً بإصلاحات محددة وأدى الصراع لتشكيل لجنة لإدارة شئون الكنيسة كان أنبا ميخائيل من ضمن أعضائها وقامت اللجنة بتولى مهامها بحكمة حنى تنيح البابا يوساب ودارت أحاديث فى المجلس الملى بضرورة تأجيل انتخابات البطريرك وتغيير لائحة الإنتخابات بحيث تضم مرشحين أكثر وحذر من هذا أنبا ميخائيل بقوة فكان يرى فى الاحداث السياسية التى تلاحقت على البلاد خطراً على الكنيسة وقال بقوة : أية كنيسة تبقي بلا رئيس دينى و بلا بطريرك تصبح هدفاً للمطامع وتغدو هدفاً للمنازعات.
وعاصر انبا ميخائيل سبعة بطاركة وهما : البابا كيرلس الخامس البطريرك 112 والبابا يوأنس التاسع عشر البطريرك 113والبابا مكاريوس الثالث البطريرك 114 والبابا يوساب الثاني البطريرك 115والبابا كيرلس السادس البطريرك 116 والبابا شنودة الثالث البطريرك 117 والبابا تواضروس الثاني البطريرك 118… وكان مع كل نياحة بطريرك يبرز أسمه بقوة لإدارة شئون الكنيسة حتى تتم الإنتخابات فكان يؤدى رسالته بحكمة وحنكة حتى أعتذر بعد رحيل البابا شنودة عن منصب القائمقام لتدهور صحته العامة …. ويحسب له أنه كان البطل المجهول الذى حافظ على الكنيسة فى أوقات كانت البلاد فيها تشهد حروبا وصراعات.
ولم يكن انبا ميخائيل مكثراً فى الأحاديث الصحفية بل كان يمارس حياته كراهب زاهد عن الحياة حتى وصل أسمه لكل بقاع العالم مع تشريف العذراء بظهورها شهوراً فوق قباب كنيستها بأسيوط وكأنها تبارك كل الأعمال وشعب أسيوط ، وكان لجريدة وطنى السبق فى وصف مظاهر التجلى والمعجزات المصاحبة له وأستمر الصحفى الراحل مسعد صادق يكتب عن التجليات وكل الجرائد الاجنبية تنقل عنه… وننشر لكم رسالة نادرة بعث بها انبا ميخائيل للصحفى الراحل مسعد صادق جاء بها “مجداً لالهنا الذى أحبك ورعاك ، ونجاك كل حين وأبقاك، لتعمل أكثر فاكثر فى كرم المسيح وكنيسته الجامعة، وجعل منك شاهداً أمينا ترصد التجليات النورانية للعذراء القديسة النقية… وقد رحت تسجل تباعاً هذه الأحداث العجيبة والمعجزات السماوية فى كثير من المواقع، والتى لم تنقطع رغم كل الموانع، بل ستظل كالسير المنهمر تزيد وترتفع، لقد سجل قلمك الفريد وحسك المرهف كلمات تنبض صدقاً، وتنطق حقاً، فخرجت كتاباتك صورة حية تجسيداً للواقع ، وبها قدمت لهذا العصر كل ما هو طيب ونافع، تثبيتاً للإيمان، وتنبيهاً للأذهان، وليستمع كل من له اذان…” 16 يونيو 1990
وفى آخر لقاء جمعهما بدير العذراء درنكة بأسيوط قال مثلث الرحمات انبا ميخائيل لمسعد صادق لن نتلق جسديا بعد الآن… وبالفعل رحل بعدها بأشهر مسعد صادق عن هذا العالم وكانت هذه من بعض المواهب الروحية التى كان يتمتع بها انبا ميخائيل وكان يخفيها عن كل الناس مثلما بدأ حياته وعاش وتنيح… راهباً ناسكاً زاهداً روحياً…