في الأسبوع الماضي، بينما كنت أفكر في الظروف المعيشية الصعبة التي نجتازها كشعب في هذه الأيام.. قفزت إلى ذهني فجأة كلمات قصيدة الشاعر محسن الخياط: «سكت الكلام، والبندقية اتكلمت»، والتي غناها عبد الحليم حافظ فألهبت مشاعر شباب جيلي، عندما كنا نصارع مع أزمة الهزيمة. وقد فكرت أن أقتبس هنا بعضًا من كلماتها لعلها تشجعنا؛ فيتجدد أملنا في مستقبل أفضل لبلادنا لا تصنعه مجرد قرارات اقتصادية صعبة، لكن يصنعه شعب تاريخه يحكي أنه يعرف كيف يتعامل مع الأزمات، ويعبر المستحيل بسلام مهما كان حجم التحديات.. شعب بيقول الشباب عنه على الفيسبوك إنه ”شعب مالوش كتالوج“:
يا شعب يا واقف على باب النهار..
قربت بصمودك طريق الانتصار،
وزرعت من تاني الأمل في كل دار
واتجمعت كل الأيادي،
من كل بيت طلعت تنادى
على الطريق، وتقول:
”بلادي .. بلادي.. بلادي!“
لست ممَنْ يدّعون خبرة التنبؤ بمستقبل الأحوال الاقتصادية بعد تعويم الجنيه، مع أن الأمر يمس حياتي وعملي وخدمتي بشكل مباشر. لكني أزعم من واقع وجودي في ساحة العمل والاستثمار أننا كبلد قد وضعنا أرجلنا على الطريق الصحيح، بالرغم من توقع وجود بعض التضحيات في الطريق قبل أن نصل للاستقرار الذي نتمناه.
كلمات الشاعر حفزتني أن أمتنع عن مناقشة أحوال البلد بسلبية، وأن أجتهد لرفع معنويات الناس من حولي ليواصلوا الكفاح والصمود حتى تعبر الأزمة. لكن الكلمة المقدسة هي التي تعطيني في كل يوم أن أتمسك بيقين الإيمان أن يبارك الله بلادي، ويغمرها بفيض من نعمته، وأدعو الجميع لمشاركتي في هذا اليقين: «إذا تواضع شعبي الذين دعي اسمي عليهم، وصلوا وطلبوا وجهي (عوني)، ورجعوا عن طرقهم الردية؛ فإنني أسمع من السماء وأغفر خطيتهم، وأبرئ (أخصب) أرضهم» (٢ أخبار ٧ : ١٤).
«الله لنا ملجأ وقوة.. عونًا في الضيقات وُجد شديدًا؛ لذلك لا نخشى ولو تزحزحت الأرض، ولو انقلبت الجبال إلى قلب البحار.. تعج وتجيش مياهها.. تتزعزع الجبال بطمُوها… كفوا واعلموا أني أنا الله. أتعالى بين الأمم، أتعالى في الأرض.. رب الجنود معنا ملجأنا إله يعقوب» (مزمور ٤٦ : ١– ٣، ١٠- ١١).. كلمات حفظتها منذ سنين طويلة عندما اشتركت في مسابقة لحفظ الآيات في كنيستي. وعندما أعود بذاكرتي إلى اللحظات التي رددت فيها هذه الكلمات في حضور باقي المتسابقين، أدرك أنني لم أكن أرى علاقة معانيها المطمئنة بظروف المعيشة في تلك الأيام (الفترة ما بين نكسة ٦٧ وعبور٧٣). لقد كانت بلادنا تمر في أزمة اقتصادية بسبب ضغوط ما كان يطلق عليه «مقتضيات المجهود الحربي». لكني أثق أن نفس هذه الكلمات كانت تعني لأبي وأمي آنذاك ما يمكن أن تعنيه اليوم لكل أب يسبح ضد تيار الغلاء، ولكل أم تحاول أن تدبر بحكمة أمور بيتها على رجاء أن تتحسن الأمور قريبًا.
محور هذه الكلمات يدور حول حقيقة أن القوة والقدرة على مواجهة الشكوك عندما تصعب ظروف الحياة هما في شخص اللـه الحي. النص يقول إن الله يبقى بالقرب من شعبه في أوقات الاضطراب وعدم الأمان؛ ليعينهم ويعطيهم سلامًا. كلمة «ملجأ» تصور المخبأ الذي يلجأ إليه الناس عندما تهب العواصف الشديدة، وكلمة «قوة» هنا تشير إلى جبروت الله عندما يرشدنا في الطريق فلا نتوه، وعندما يعمل داخلنا فلا نضعف.. إنها نفس الكلمة المستخدمة في خروج ١٥ : ١٣«ترشد برأفتك الشعب الذي فديته، تهديه بقوتك إلى مسكن قدسك»، والتي استخدمها الرسول بولس أيضًا ليصف قوة الله التي تعمل فيه لتقويه: «بحسب عمله الذي يعمل فيَّ بقوة» (كولوسي ١ : ٢٩).
عبارة «وُجد شديدًا» تترجم “نصيرًا عظيمًا”، وهي تلخص النتيجة النهائية لحضور اللـه مع شعبه في وقت الضيق، وتدعونا أن نلجأ إليه طلبًا للمساعدة في وقت الحاجة.. «فلنتمسك بإيماننا؛ لأن لنا في يسوع ابن اللـه رئيس كهنة عظيمًا اجتاز السماوات.. ورئيس كهنتنا غير عاجز عن أن يشفق على ضعفنا، وهو الذي خضع مثلنا لكل تجربة ما عدا الخطية.. فلنتقدم بثقة إلى عرش واهب النعمة لننال رحمة ونجد نعمة تُعيننا عند الحاجة» (عبرانيين ٤: ١٤– ١٦ الترجمة العربية المشتركة).
أما كلمة «كُفوا» فتعني “تحرروا” أو “أفلتوا”.. تحرروا من القلق، واحذروا من الوقوع في فخ التذمر؛ لأنهما أكثر ما يجعلانا نفتقد معية الرب القدير بينما نعبر في ضيق أو نجتاز في أزمة. بالطبع ليس من السهل ألا نقلق وأن نشكر اللـه في كل الأوقات، لكن إن كنا نريده أن يتدخل ليسدد احتياجاتنا، ويتمم مقاصده العليا في حياتنا الشخصية والعائلية، بل ويحقق ما يريده من خير لبلادنا، علينا بالتسليم له في الصلاة بإيمان، مع الشكر حتى من أجل القليل الذي لايزال متوفرًا لدينا، وبدون أن نقارن أنفسنا مع الآخرين.. «افرحوا كل حين، صلوا بلا انقطاع.. اشكروا في كل شيء؛ لأن هذه هي مشيئة اللـه في المسيح يسوع من جهتكم»(١ تسالونيكي ٥ : ١٦- ١٨).
الشكر في وقت الضيق يخرجنا من دوامة القلق؛ لأنه ببساطة يغلق الباب في وجه إبليس فلا يستطيع أن يبتلعنا باليأس من ظروف الحاضر، والقلق مما يأتي به الغد. إن كان هناك ما يسلبنا التمتع ببركة الحاضر، ويفقدنا فاعليتنا لمواجهة تحديات الغد، فهو القلق، والشكوى المستمرة من الظروف! فماذا أنت فاعل من أجل نفسك وأسرتك.. وأيضًا من أجل بلدك؟ أما أنا.. فبكل حبي للحياة ولبلدي، وبكل لمحة أمل شايفها في عيون ولدي، وبكل شوقي للفجر وشروقي، وبكل نبض ثورة يناير و٣٠ يونيو في عروقي.. هازرع الأمل في الناس وأصليلِك.. ولا عمري أفرط فيكي، وهاموت وأنا بهتف ليكي.. يا بلدي!