تعظيم سلام لكل أم في حياتنا.. تعظيم سلام لكل جدة وأم روحية.. لكل حماة وزوجة أب.. تعظيم سلام لكل عمة وخالة، لكل أخت أو ابنة.. لكل جارة أو صديقة، لكل معلمة أو مربية.. تعظيم سلام لكل زوجة وشريكة حياة، ولكل امرأة تحب بقلب أم. اليوم أحتضن أمي في ذاكرتي؛ لأن فرصة التمتع بذراعيها تعانقاني لم تعد متاحة الآن، لكني لا أشعر بالحزن لغيابها عنا ؛ لأني أعرف يقينًا أين هي الآن، وأتطلع لفرحة اللقاء معًا مرة أخرى في ذلك المكان!
أمي كانت امرأة من نوع خاص، مملوءة بالإيمان، والنعمة، والمحبة.. حياتي بدأت عندما فتحت عينيّ لأول مرة على وجهها الأسمر مشرقًا يبتسم لي في حب مذهل.. كبرت وهي تدللني، وفي نفس الوقت تؤدبني. علمتني كيف أكون قويًا بينما أهتم بمشاعر الآخرين.. كيف أكون صاحب رؤية وأحلام بدون أن أتخلى عن الواقع.. كيف أنضج فكريًا دون أن أتخلى عن البساطة أو أطلب الكمال. معها عرفت أن الحياة بها ألوان أكثر من مجرد الأبيض والأسود؛ فتمتعت مع إخوتي بكل جميل أحاطتنا به في بيتنا، وإن ضاق بنا لكثرة عددنا، كنا نراه «سرايا عابدين»! في محدوديتي لم أستطع أن أفهم عمق محبتها وتضحيتها، أو أستوعب نموذج بطولتها: كيف لم تنكمش تحت الضغوط، وكيف تتضاعف قوتها في مواجهة أصعب الظروف! بحبها المتدفق زرعت في قلبي حبًا للحياة جعلني أنمو كل يوم.
لا أستطيع أن أكتب ما يكفي لأصف أمي في سطور، أو أن أحكي عن أبي الذي كان أيضا عظيمًا في هدوء.. رقيقًا تحركه من مكانه دفعة أصبع، لكن لم يكن لأي قوة القدرة أن تحركه سنتيمترًا واحدًا عما يؤمن به. أبي كان بوليصة التأمين لحياتنا كأسرة، وأمي هي التي كانت تدفع الأقساط بعطائها غير المحدود! عندما أنظر للوراء اليوم، لا أندم على أي فرصة أتيحت لي قبل أن يمضيا عنا لأعبر لهما عن تقديري، وامتناني لما فعلاه، ليصنعا مني ما أنا عليه الآن.
لا أقصد بهذه المشاركة الشخصية المبالغة في مدح أمي أو أبي، مع أنهما يستحقان أكثر من ذلك بكثير. ولست أشك في أن أغلبنا لديه الكثير ليحكيه عن بطولة أمه، وكفاح وإخلاص أبيه.. لكني أريد في مناسبة هذا الأسبوع، أن أخاطب الأبناء الذين يحبون والديهم، لكن من على بعد.. يعني «حب بالريموت كنترول»! أريد أن تصل كلماتي إلى الذين يهملون التعبير عن تقديرهم لوالديهم بسبب المشغولية أو الأنانية.. وقبل فوات الأوان أريد أن أوقظ مشاعر مَنْ فصلهما الزواج عن العشرة مع والديهما، واستسلما لفكر شريك الحياة بأن البعد عنهما غنيمة!
يأتي يوم ويذهب آخر، ويتقدم آباؤنا وأمهاتنا في العمر ويشيخون، وينسحب البعض منهم من المشهد بدون استئذان.. لكن تظل الوصية التي كتبها الله بيده على لوحي الشريعةمقياسًا أبديًا لأحد أهم قيم الحياة التي تعطي لنجاحنا في أي علاقة أو أي شيء ننجزه في أيام عمرنا معنى خاصًا لا يعرفه إلا مَنْ اختبره أو افتقده: «أكرم أباك وأمك كما أوصاك الرب إلهك لكي تطول أيامك، ولكي يكون لك خير على الأرض التي يعطيك الرب إلهك» (تثنية ٥: ١٦).
في أحد حوارات الرب يسوع مع معلمي الشريعة والفريسيين سألوه: «لماذا لا يراعي تلاميذك تقاليد القدماء؟» فأجابهم: «يا مراؤون، صدق إشعياء في نبوته عنكم… هذا الشعب يكرمني بشفتيه، وأما قلبه فبعيد عني، وهو باطلاً يعبدني!» ثم اختار هذه الوصية ليشرح كيف أن تعاليم البشر تناقض طاعة الله: «أكرم أباك وأمك، ومَنْ لعن أباه أو أمه فموتًا يموت.» ثم قدم من تقاليدهم مثالاً عمليًا لهذا التناقض: «… إذا كان عند أحد ما يساعد به أباه وأمه، ثم قال لهما: هذا قُربان، أي تقدمة لله، يُعفى من مساعدة أبيه أو أمه» (مرقس ٧ : ١ – ١٣).
واضح من النص أن الإكرام هنا يتضمن التزامًا يتوقعه الله من الأبناء تجاه الوالدين.وحتى لا يلتبس علينا الأمر من الجيد أن نعود إلى الخلفية الدينية والاجتماعية للزمن الذي دار فيه هذا النقاش. كلمة «قربان» تعني في الأصل العبري “تقدمة تخصص لله وخدمة الهيكل”. على أية حال لم يُقصد بهذه التقدمة، أو غيرها من الممارسات الدينية، تتميم وصية وكسر أخرى! لكن بحسب تعاليم الفريسيين آنذاك، إذا قال الابن على شيء إنه «قربان» فبإمكانه الاحتفاظ به لنفسه، ولا يساعد به والديه إن كانا في احتياج لهذا الشيء؛ بعذر أنه سيعطيه لخدمة الله!
ما تعطيه للرب من مال أو وقت وجهد لا يعفيك بأي حال من مسؤولية ما يجب أن تعطيه لأمك وأبيك، بغض النظر عن حرفية تفسير نصوص كتابية أخرى تحكي عن أولوية محبة الله على محبة الأهل، والتي تُفهم خطأ خارج سياقها. الرسول بولس حسم هذا الجدل عندما قال:«مَنْ لا يعتني بأقربائه، وخصوصًا أهل بيته (أمه وأبيه)، أنكر الإيمان وهو أسوأ من غير المؤمن» (١تيموثاوس ٥ : ٨).
الفعل «أكرم» في اللغة الأصلية يعني أن تعطي قدرًا كافيًا من الاحترام النابع عن تقدير داخلي، يُعبر عنه بما تفعله لتريح والديك، وتجعل حياتهم أسهل، خاصة في شيخوختهم. أما الفعل «لعن» فيعني أبعد من “شتم”؛ ففي النص الذي اقتبسه الرب يسوع من الوصايا العشر جاء في اللغة العبرية بمعنى: تجاهل خدمتهم، التأخر عنهم، التحدث معهم بقسوة، الاستخفاف بهم، أو الحديث عنهم بكلام شرير! «مَنْ لعن أباه أو أمه ينطفئ سراجه في قلب الظلام» (أمثال ٢٠: ٢٠).. «ملعون مَنْ يستخف بأبيه أو أمه» (تثنية ٢٧: ١٦).
يا كل ابن أو ابنة شغلتك الحياة، أو أدار النجاح رأسك.. أخذتك مسؤوليات العمل، أو ملأت التزامات الخدمة جدولك اليومي؛ فلم يعد لديك الوقت، وغابت عن مشاعرك الرغبة في أن تكرم أباك وأمك.. العبادة مع كسر الوصية باطلة، والنجاح الذي يبعدك عنهما يبعدك عن الله أيضًا! هل وصلت الرسالة؟