شئنا أم أبينا، النجاح في الحياة يرتبط بشكل مباشر بالشخصية وليس بالمجموع أو نوعية الدراسة.. في الواقع كثيرون ممَنْ كانت درجاتهم متواضعة في الدراسة حققوا نجاحًا منقطع النظير في الحياة العملية! الشهادة أيًا كانت نوعيتها تعد الأبناء للمستقبل لكنها لا تحدد معالمه، ولعلها تصبح مجرد حبر على ورق إذا حبست صاحبها وراء اللقب الذي يرتبط بها بدلاً من أن تكون منصة انطلاق لعالم الأعمال الخلاق الذي لا يقيس النجاح بالدرجات بل بحجم ونوعية الإنجاز.
قبل بداية عام دراسي جديد، أعود للدفاع عن كل الأبناء الذين لا تسمح قدراتهم على تحصيل الدرجات الأعلى التي يتمناها الوالدان، ويصران على تحقيقها بأي ثمن.. الذين يكبرون في بيئة تجعلهم يشعرون بعدم الكفاءة، وتصنفهم بأنهم متوسطو الذكاء.. الذين أصابهم التمييز العنصري لفصل المتفوقين، ولم تعرف صورهم طوال سنوات الدراسة طريقها إلى لوحة الشرف.. كل الذين تطحنهم نفسيًا المقارنة بالآخرين في عدم إدراك لتفردهم كأشخاص.. كل الذين يجرحون بالتوبيخ القاسي على عدم تمتعهم بقدرات لم يكن بيدهم أن يختاروا ألا تكون لديهم.. الأبناء الذين تصم آذانهم، وتغلق عقولهم عبارات مثل: “علم في المتبلم يصبح ناسي” أو “عمرك ما هاتفلح” أو “تبقى تعال قابلني لو فلحت“، وغيرها من العبارات البالية التي بالطبع لن تحقق ما يرده الآباء، لكنها بكل تأكيد تحطم شخصية الأبناء.
أعرف أن الذين ينتمون للتوجهات الفكرية للقرن الماضي لا يعجهبم القول بأن المجموع لم يعد بالأهمية التى كانت تُعطى له من قبل، وأن الشهادة أو الحصول على اللقب لا يعنيان بالضرورة النجاح في الحياة. لكن الواقع أثبت أن كثيرين من الذين نالوا شهادات منحتهم اللقب تمتلىء أفواههم بطعم المرارة بسبب عدم وجود هدف يعيشون لأجله، وافتقادهم للسعادة لغياب المعنى عن حياتهم!
مناداة الحكيم سليمان: «افتح فمك دفاعًا عن المتألمين، وعن جميع حقوق المهملين» (أمثال ٣١: ٨) زادت من إصراري على الوقوف من أجل الأبناء المطحونين، الذين لا حول لهم ولا قوة في مواجهة ضغوط والدين يقيسون استحقاقهم طبقًا للدرجة التي يحصلون عليها في امتحانات الشهر، ويجبرونهم على الدراسة والاستذكار بأسلوب يضعهم في صراع مستمر مع النمط التعليمي الذي ينتمون إليه..
ألبرت أينشتين، أحد أعظم علماء القرن العشرين، قال عن الصراع بين نمط التعلم واستخدام أسلوب واحد في التدريس وحل الواجب: “لكل إنسان عبقريته الخاصة، لكن الحكم على سمكة قياسًا على قدرتها على تسلق شجرة سيجعلها تعتقد طيلة حياتها أنها غبية!“ وبالمناسبة لم يكن أينشتين تلميذًا نابغًا في طفولته، لدرجة أن والديه ظنا أنه معاق ذهنيًا.. ولأنه لم يُحرز درجات كافية في امتحانات المدرسة طُرد منها في سن الخامسة عشرة.
أعظم المفكرين والقادة، وأنجح رجال الأعمال في مجالات الحياة المتنوعة، هم من استطاعوا أن يتحدوا المألوف، ولم يُفشلهم التصنيف بأنهم تلاميذ متوسطو المستوى! على أية حال، لم يرجع فشل هؤلاء في بداية حياتهم إلى عوامل الذكاء، بل إلى قياس قيمتهم والقدرات الكامنة فيهم بناءً على ما يحققونه من الدرجات، وكذلك سطحية تقييم إجاباتهم الخلاقة على أسئلة الامتحانات طبقًا لجمود نموذج الإجابة. قصة بيل جيتس وميكروسوفت، وخبرة ستيڤ جوبز مع تصميم تكنولوجيا آبل من أروع الأمثلة لأشخاص حققوا مكانة مبهرة في عالم النجاح والشهرة والغنى، بالرغم من أنه لم يكن لهما حظ وافر مع درجات المدرسة، وقد بدا أنهما فاشلان في نظر مجتمعهما! لكن بإصرار لم ينقصه الحماس، وبموهبة استطاعت أن تفلت من قيود الدراسة التقليدية استطاعا بما وصلا إليه من ابتكارات أن يصنعا ثورة تقنية غيرت العالم بأثره.. مع أن الأول لم يحصل سوى على درجة البكالريوس، والثاني لم يكمل دراسته الجامعية! السر في انطلاق مثل هذين العظيمين إلى عالم النجاح يكمن في إدراكهم المبكر أنه حتى إذا كان المجتمع الذي يعيشون فيه يعطي أهمية قصوى للدرجة، فإن هذا لا يعني بالضرورة أن ما يعتقده الغالبية هو الصواب!
لقد حان الوقت لنستيقظ؛ فالعالم قد تغير، والنجاح الآن لا يتحقق إلا بقدرة الأشخاص على التفكير فيما يتعلمونه، وبالمحاولة المستمرة للتوظيف الخلاق لمعرفة تُكتسب بالتعليم، لتفجر المواهب والقدرات التي يُولدون بها من أجل تحقيق أعظم الإنجازات لخدمة البشرية. فلنرحم أولادنا إذن، ولنحرص على ألا نفشلهم أو نثير غيظهم وغضبهم (أف ٦:٤).. فمَنْ يستطيع أن يربي أبناء يشعرون بالثقة في قدرتهم على تحقيق الأهداف التي يحلمون بها لحياتهم، وإنجاز المهام التي يختارون القيام بها في مستقبلهم، بغض النظر عن درجات الشهادة في أيام دراستهم، يعطيهم بهذا أحد أعظم بركات الحياة.
عندما أفكر في السؤال: ما الذي نريده كآباء لأبنائنا، أتذكر نصيحة الرسول يوحنا في رسالته الثالثة لتلميذه غايُس: «في كل شيء أروم أن تكون ناجحا وصحيحا، كما أن نفسك ناجحة».. والواضح أن القديس الحبيب لم يعتبر النجاح والصحة هما كل ما تمناه لأولاده في الإيمان.. فعندما نظر للوراء في أيام شيخوخته عبر بروعة وإيجاز عن أكثر ما يملأ قلبه بالسعادة والرضا: «ليس لي فرح أعظم من هذا أن أسمع عن أولادي أنهم يسلكون بالحق».. كلمات لاتزال تنادي كل أب وأم من أواخر القرن الأول وحتى اليوم ليعرفوا أعظم ما يمكن أن يُختتم به كفاح الأيام في تربية الأبناء. حقًا ماذا ينتفع الآباء إذا حصل الأبناء على أعلى الدرجات وخسروا أبديتهم؟